الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (41) قوله تعالى : اجعل لي آية يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير فيتعدى لاثنين أولهما "آية " والثاني : الجار قبله . والتقديم هنا واجب ، لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة وهي "آية " لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار ، وحكمهما بعد دخول الناسخ حكمهما قبله ، والتقدير : صير آية من الآيات لي . ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والاتخاذ [ ص: 164 ] أي : اخلق لي آية فتعدى لواحد ، وفي "لي " على هذا وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بالجعل ، والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من "آية " لأنه لو تأخر لجاز أن يقع صفة لها ، ويجوز أن يكون للبيان . وحرك الياء بالفتح نافع وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ألا تكلم أن وما في حيزها في محل رفع خبرا لقوله : "آيتك " أي : آيتك عدم كلامك للناس . والجمهور على نصب "تكلم " بأن المصدرية . وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن تكون "أن " مخففة من الثقيلة ، واسمها حينئذ ضمير شأن محذوف ، والجملة المنفية بعدها في محل رفع خبرا لـ "أن " ، ومثله : أفلا يرون ألا يرجع وحسبوا ألا تكون فتنة ، ووقع الفاصل بين أن والفعل الواقع خبرها بحرف نفي ، ولكن يضعف كونها مخففة عدم وقوعها بعد فعل يقين . الثاني : أن تكون الناصبة حملت على "ما " أختها ، ومثله : لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وأن وما في حيزها أيضا في محل رفع خبرا لـ "آيتك " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ثلاثة أيام الصحيح أن هذا النحو - وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميعه الحدث الواقع فيه - منصوب على الظرف خلافا للكوفيين فإنهم ينصبونه نصب المفعول به ، وقيل : "وثم معطوف محذوف تقديره : ثلاثة أيام ولياليها ، فحذف كقوله تعالى : تقيكم الحر ونظائره ، [ ص: 165 ] يدل على ذلك قوله في سورة مريم : ثلاث ليال سويا ، وقد يقال : إنه يؤخذ المجموع من المجموع فلا حاجة إلى ادعاء حذف ، فإنا على هذا التقدير الذي ذكرتموه نحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرى تقديره : ثلاث ليال وأيامها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إلا رمزا فيه وجهان ، أحدهما : أنه استثناء منقطع لأن الرمز ليس من جنس الكلام ، إذ الرمز : الإشارة بعين أو حاجب ، أو نحوهما ، ولم يذكر أبو البقاء غيره ، واختاره ابن عطية بادئا به فإنه قال : " والكلام المراد في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء أنه استثناء منقطع "ثم قال : " وذهب الفقهاء إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا " .

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الثاني : أنه متصل ؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معان ، الرمز والإشارة من جملتها ، وأنشدوا على ذلك :


                                                                                                                                                                                                                                      1271 - إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1272 - أرادت كلاما فاتقت من رقيبها     فلم يك إلا ومؤها بالحواجب



                                                                                                                                                                                                                                      وقد استعمل الناس ذلك فقال حبيب :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 166 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1273 - كلمته بجفون غير ناطقة     فكان من رده ما قال حاجبه



                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا الوجه بدأ الزمخشري مختارا له قال : "لما أدي مؤدى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمي كلاما ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا " .

                                                                                                                                                                                                                                      والرمز : الإشارة والإيماء بعين أو حاجب أو يد ، ومنه قيل للفاجرة : الرامزة والرمازة ، وفي الحديث : " نهى عن كسب الرمازة " يقال فيه : رمزت ترمز وترمز بضم العين وكسرها في المضارع ، وأصل الرمز : التحرك يقال : رمز وارتمز أي : تحرك ، ومنه قيل للبحر : الراموز لتحركه واضطرابه . وقال الراغب : "الرمز : إشارة بالشفة ، والصوت الخفي والغمز بالحاجب ، وما ارماز أي : لم يتكلم رمزا ، وكتيبة رمازة : أي لم يسمع منها إلا رمز لكثرتها " قلت : ويؤيد كونه الصوت الخفي - كما قال الراغب - ما جاء في التفسير أنه كان ممنوعا من رفع الصوت .

                                                                                                                                                                                                                                      والعامة قرؤوا : رمزا بفتح الراء وسكون الميم . وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة بن قيس : "رمزا " بضمهما وفيه وجهان ، أحدهما : أنه مصدر على فعل بتسكين العين في الأصل ، ثم ضمت العين إتباعا كقولهم : اليسر والعسر في : اليسر والعسر ، وقد تقدم في هذا كلام لأهل التصريف . والثاني : أنه جمع رموز كرسل في جمع رسول ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وقال أبو البقاء : "وقرئ بضمها - أي الراء - وهو جمع رمزة بضمتين ، وأقر ذلك في الجمع ، ويجوز أن يكون سكن الميم في الأصل ، وإنما أتبع الضم [ ص: 167 ] الضم ، ويجوز أن يكون مصدرا غير جمع وضم إتباعا كاليسر واليسر " قلت : قوله : "جمع رمزة " إلى قوله "في الأصل " كلام مثبج لا يفهم منه معنى صحيح . وقرأ الأعمش : "رمزا " بفتحهما . وخرجها الزمخشري على أنه جمع رامز كخادم وخدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وانتصابه على هذا على الحال من الفاعل وهو ضمير زكريا ، والمفعول معا وهو الناس كأنه : إلا مترامزين كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1274 - متى ما تلقني فردين ترجف     روانف إليتيك وتستطارا



                                                                                                                                                                                                                                      وكقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1275 - فلئن لقيتك خاليين لتعلمن     أيي وأيك فارس الأحزاب



                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : كثيرا نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير ذلك المصدر وقد عرف . أو نعت لزمان محذوف تقديره : ذكرا كثيرا أو زمانا كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      والباء في قوله : بالعشي بمعنى "في " أي : في العشي والإبكار . والعشي يقال من وقت زوال الشمس إلى مغيبها ، كذا قال الزمخشري . وقال الراغب : "العشي : من زوال الشمس إلى الصباح " والأول هو المعروف . وقال الواحدي : "العشي : جمع عشية وهي آخر النهار " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 168 ] والعامة قرؤوا : "والإبكار " بكسر الهمزة ، وهو مصدر بكر يبكر إبكارا أي : خرج بكرة ، ومثله بكر بالتخفيف وابتكر . قال عمر بن أبي ربيعة :


                                                                                                                                                                                                                                      1276 - أمن آل نعم أنت غاد فمبكر      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      فهذا من أبكر . وقال أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                      1277 - أيها الرائح المجد ابتكارا      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1278 - بكرن بكورا واستحرن بسحرة     فهن ووادي الرس كاليد في الفم



                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ شاذا : "والأبكار " بفتح الهمزة ، وهو جمع "بكر " بفتح الفاء والعين . ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرف فلا يستعمل غير ظرف . تقول : "أتيتك يوم الجمعة بكر " ، وسبب منع صرفه التعريف والعدل من "أل " ، فلو أريد به وقت مبهم انصرف نحو : "أتيتك بكرا من الأبكار " ، ونظيره : سحر وأسحار في جميع ما تقدم ، وهذه القراءة تناسب قوله "العشي " عند من يجعلها جمع "عشية " ليتقابل الجمعان .

                                                                                                                                                                                                                                      ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى وقال الراغب : " [ ص: 169 ] أصل الكلمة هي البكرة أول النهار ، فاشتق من لفظه لفظ الفعل فقيل : بكر فلان بكورا إذا خرج بكرة ، والبكور : المبالغ في البكور ، وبكر في حاجته وابتكر وباكر ، وتصور فيها معنى التعجيل لتقدمها على سائر أوقات النهار ، فقيل لكل متعجل : بكر " قلت : ظاهر هذه العبارة - وكذا عبارة غيره - أن البكر مختص بطلوع الشمس إلى الضحى ، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى ، فإنه على خلاف الأصل . وقد صرح الواحدي بذلك فقال : هذا معنى الإبكار ، ثم يسمى ما بين طلوع الفجر إلى الضحى إبكارا كما يسمى إصباحا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية