الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (19) قوله تعالى : أن ترثوا : في محل رفع على الفاعلية بـ "يحل " أي : لا يحل لكم إرث النساء . وقرئ "لا تحل " بالتاء من فوق [ ص: 627 ] على تأويل أن ترثوا : بالوراثة ، وهي مؤنثة ، وهذا كقراءة : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا بتأنيث "تكن " ونصب "فتنتهم " بتأويل "ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم " ، إلا أن في آية الأنعام مسوغا وهو الإخبار عنه بمؤنث كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                      و "النساء " مفعول به : إما على حذف مضاف أي : أن ترثوا أموال النساء إن كان الخطاب للأزواج ؛ لأنه روي أن الرجل منهم إذا لم يكن له غرض في المرأة أمسكها حتى تموت فيرثها ، أو تفتدي منه بمالها إن لم تمت . وإما من غير حذف ، على معنى أن يكن بمعنى الشيء الموروث إن كان الخطاب للأولياء أو الأقرباء الميت ، فقد نقل أنه إذا مات أحدهم وترك امرأة وابنا من غيرها كان أحق بها من نفسها . وقيل : كان الولي إن سبق وألقى عليها ثوبه كان أحق بها ، وإن سبقت إلى أهلها كانت أحق بنفسها ، فنهوا أن يجعلوهن كالأشياء المواريث ، وعلى ما ذكرت فلا يحتاج إلى حذف أحد المفعولين : إما الأول أو الثاني على جعل "أن ترثوا " متعديا لاثنين كما فعل أبو البقاء قال : "والنساء فيه وجهان : أحدهما : هن المفعول الأول ، والنساء على هذا هن الموروثات ، وكانت الجاهلية ترث نساء آبائهم وتقول : نحن أحق بنكاحهن . والثاني : أنه المفعول الثاني والتقدير : أن ترثوا من النساء المال " انتهى . قوله : "هن المفعول الأول " يعني والثاني محذوف تقديره : أن ترثوا من آبائكم النساء .

                                                                                                                                                                                                                                      و "كرها " مصدر في موضع نصب على الحال من النساء أي : أن ترثوهن كارهات أو مكرهات . وقرأ الأخوان "كرها " هنا وفي براءة [ ص: 628 ] والأحقاف بضم الكاف ، وافقهما عاصم وابن عامر من رواية ابن ذكوان عنه على ما في الأحقاف ، والباقون بالفتح . وقد تقدم الكلام في الكره والكره : هل هما بمعنى واحد أم لا ؟ في البقرة فأغنى عن إعادته . ولا مفهوم لقوله "كرها " يعني فيجوز أن يرثوهن إذا لم يكرهن ذلك لخروجه مخرج الغالب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ولا تعضلوهن فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مجزوم بـ "لا " الناهية ، عطف جملة نهي على جملة خبرية ، فإن لم تشترط المناسبة بين الجمل - كما هو مذهب سيبويه - فواضح ، وإن اشترطنا ذلك - كما هو رأي بعضهم - فلأن الجملة قبلها في معنى النهي ، إذ التقدير : لا ترثوا النساء كرها فإنه غير حلال لكم . وجعله أبو البقاء على هذا الوجه مستأنفا ، يعني أنه ليس بمعطوف على الفعل قبله .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : - أجازه ابن عطية وأبو البقاء - أن يكون منصوبا عطفا على الفعل قبله . قال ابن عطية : "ويحتمل أن يكون " تعضلوهن "نصبا عطفا على " ترثوا " ، فتكون الواو مشركة عاطفة فعلا على فعل " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن مسعود : "ولا أن تعضلوهن " فهذه القراءة تقوي احتمال النصب وأن العضل مما لا يحل بالنص . ورد الشيخ هذا الوجه بأنك إذا [ ص: 629 ] عطفت فعلا منفيا بـ "لا " على مثبت وكانا منصوبين فإن الناصب لا يقدر إلا بعد حرف العطف لا بعد "لا " ، فإذا قلت : "أريد أن أتوب ولا أدخل النار " فإن التقدير : أريد أن أتوب وأن لا أدخل النار ، لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوت والثاني على سبيل النفي ، فالمعنى : أريد التوبة وانتفاء دخولي النار ، فلو كان الفعل المتسلط على المتعاطفين منفيا فكذلك ، ولو قدرت هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت : "لا يحل أن لا تعضلوهن " لم يصح إلا أن تجعل "لا " زائدة لا نافية ، وهو خلاف الظاهر ، وأما أن تقدر "أن " بعد "لا " النافية فلا يصح ، وإذا قدرت "أن " بعد "لا " كان من عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر ، لا من باب عطف الفعل على الفعل ، فالتبس على ابن عطية العطفان ، وظن أنه بصلاحية تقدير "أن " بعد "لا " يكون من عطف الفعل على الفعل ، وفرق بين قولك : [لا ] أريد أن تقوم وأن لا تخرج "وقولك : " لا أريد أن تقوم ولا أن تخرج "ففي الأول نفى إرادة وجود قيامه ، وأراد انتقاء خروجه فقد أراد خروجه ، وفي الثانية نفى إرادة وجود قيامه ووجود خروجه ، فلا يريد لا القيام ولا الخروج . وهذا في فهمه بعض غموض على من لم يتمرن في علم العربية " انتهى ما رد به .

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه نظر : من حيث إن المثال الذي ذكره في قوله : "أريد أن أتوب ولا أدخل النار " فإن تقدير الناصب فيه قبل "لا " واجب من حيث إنه لو قدر بعدها لفسد التركيب ، وأما في الآية فتقدير "أن " بعد "لا " صحيح ، فإن التقدير يصير : لا يحل لكم إرث النساء كرها ولا عضلهن . [ويؤيد ما قلته وما ذهب إليه ابن عطية قول الزمخشري فإنه قال : فإن قلت : ] تعضلوهن ما وجه [ ص: 630 ] إعرابه ؟ قلت : النصب عطفا على "أن ترثوا " و "لا " لتأكيد النفي أي : لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن " ، فقد صرح الزمخشري بهذا المعنى وصرح بزيادة " لا "التي جعلها الشيخ خلاف الظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الكلام حذف تقديره : "ولا تعضلوهن من النكاح " إن كان الخطاب للأولياء ، أو : "ولا تعضلوهن من الطلاق " إن كان الخطاب للأزواج . وتقدم معنى العضل في البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : لتذهبوا اللام متعلقة بـ " تعضلوهن " ، والباء في "ببعض " فيها وجهان ، أحدها : أنها باء التعدية المرادفة لهمزتها أي : لتذهبوا [بعض ] ما آتيتموهن . والثاني : أنها للمصاحبة ، فيكون الجار في محل نصب على الحال ، ويتعلق بمحذوف أي : لتذهبوا مصحوبين ببعض ، و "ما " موصولة بمعنى الذي أو نكرة موصوفة ، وعلى التقديرين فالعائد محذوف ، وفي تقديره إشكال تقدم الكلام عليه في البقرة عند قوله : ومما رزقناهم ينفقون فليلتفت إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إلا أن يأتين في هذا الاستثناء قولان ، أحدهما : أنه منقطع ، فيكون "أن يأتين " في محل نصب والثاني : أنه متصل ، وفيه حينئذ ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه مستثنى من ظرف زمان عام تقديره : "ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت إتيانهن بفاحشة . الثاني : أنه مستثنى من الأحوال العامة تقديره : لا تعضلوهن في حال من الأحوال إلا في حال إتيانهن بفاحشة . الثالث : أنه مستثنى من العلة العامة تقديره : لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإتيانهن بفاحشة . وقال أبو البقاء بعد أن حكى فيه وجه [ ص: 631 ] الانقطاع : " والثاني : هو في موضع الحال تقديره : إلا في حال إتيانهن بفاحشة ، وقيل : هو استثناء متصل ، تقديره : ولا تعضلوهن في حال إلا في حال إتيان الفاحشة "انتهى . وهذان الوجهان هما في الحقيقة وجه واحد ، لأن القائل بكونه منصوبا على الحال لا بد أن يقدر شيئا عاما يجعل هذه الحال مستثناة منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم : " مبينة "بفتح الياء اسم مفعول في جميع القرآن ، أي : بينها من يدعيها وأوضحها . والباقون بكسرها اسم فاعل وفيه وجهان ، أحدهما : أنه من " بين "المتعدي ، فعلى هذا يكون المفعول محذوفا تقديره مبينة حال مرتكبها . والثاني : أنه من بين اللازم ، فإن " بين "يكون متعديا ولازما يقال : بان الشيء وأبان واستبان وبين وتبين بمعنى واحد أي : ظهر . وقرأ بعضهم : مبينة بكسر الباء وسكون الياء اسم فاعل من " أبان " ، وفيها الوجهان المتقدمان في المشددة المكسورة ، لأن " أبان "أيضا يكون متعديا ولازما ، وأما " مبينات "فقرأهن الأخوان وابن عامر وحفص عن عاصم بكسر الياء اسم فاعل ، والباقون بفتحها اسم مفعول ، وقد تقدم وجه ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بالمعروف في الباء وجهان ، أظهرهما : أنها باء الحال : إما من الفاعل أي : مصاحبين لهن بالمعروف ، أو من المفعول أي : مصحوبات بالمعروف . والثاني : أنها باء التعدية . قال أبو البقاء : "بالمعروف " مفعول أو حال " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فعسى الفاء جواب الشرط ، وإنما اقترنت بها " عسى "لكونها [ ص: 632 ] جامدة . قال الزمخشري : " فإن قلت : من أي وجه صح أن يكون "فعسى " جزاء للشرط ؟ قلت : من حيث إن المعنى : فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة ، فلعل لكم فيما تكرهون خيرا كثيرا ليس فيما تحبونه " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ " ويجعل "برفع اللام . قال الزمخشري : " على أنه حال " ، يعني ويكون خبرا لمبتدأ محذوف ؛ لئلا يلزم دخول الواو على مضارع مثبت . و " عسى "هنا تامة لأنها رفعت " أن "وما بعدها ، والتقدير : فقد قربت كراهتكم ، فاستغنت عن تقدير خبر ، والضمير في " فيه "يعود على " شيء "أي : في ذلك الشيء المكروه وقيل : يعود على الكره المدلول عليه بالفعل . وقيل : يعود على الصبر وإن لم يجر له ذكر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية