الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الكفر مقرون بتوحيد الربوبية

الأول: أن تعرف الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتلهم، ونهب أموالهم، وسبى ذراريهم، واستحل نساءهم، كانوا مقرين لله بتوحيد الربوبية، وأنه لا يخلق، ولا يرزق، ولا يدبر الأمر إلا هو كما قال تعالى: قل من [ ص: 178 ] يرزقكم من السماء والأرض [يونس:31]، الآية إلى غير ذلك من الآيات التي تقدمت في الكتاب.

وهذه مسألة جليلة، عظيمة، مهمة، عرفت منها أن الكفار كانوا مقرين بهذا كله، شاهدين به.

ومع هذا، لم يدخلهم ذلك في الإسلام، ولم يخرجهم من الكفر، لم يحرم دماءهم، ولا أموالهم.

وأيضا كانوا يتعبدون، ويحجون، ويعتمرون، ويتصدقون، ويكفون عن أشياء من المحرمات خوفا من الله تعالى، فما أغنى عنهم ذلك شيئا، ولكن الأمر الثاني الذي كفرهم وأحل دماءهم وأموالهم، أنهم لم يشهدوا بتوحيد الألوهية.

وهي أن لا يدعى، ولا يعبد، ولا يخاف، ولا يرجى، ولا يستعان، ولا يستغاث إلا الله وحده لا شريك له.

ولا يذبح لغيره، ولا ينذر لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لغيرهما، فمن استغاث بغيره في الشدائد، ودعا غيره فيها، فقد كفر.

ومن ذبح لغيره تقربا إليه، أو نذر لغيره، فقد خالف الكلمة، وفعل فعل الكفر.

وكذلك حكم ما أشبه ذلك، ويوضحه أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يدعون الصالحين؛ مثل الملائكة، وعيسى، وعزير، وغيرهم من الأولياء، فكفروا بهذا، مع إقرارهم بأن الله الخالق، الرازق، الرب، المدبر.

إذا تأملت هذا، عرفت معنى لا إله إلا الله، وعرفت أن من دعا نبيا، أو ملكا، أو وليا، أو جنا، أو شيطانا، أو أحدا من دون الله، كائنا من كان من الصلحاء أو من الطلحاء، أو ندبه، أو استغاث به، فقد خرج من الإسلام.

وهذا هو الكفر والشرك الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس المشركين، [ ص: 179 ] والخلق الكافرين، وعباد الأوثان والأصنام، ومعتقدي الأسلاف، والآباء الطغام.

فإن قال قائل من المشركين: نحن نعرف أن الله هو الخالق، الرازق، المدبر، لكن هؤلاء الصالحون مقربون، ونحن ندعوهم، وننذر لهم، وندخل عليهم، ونستغيث بهم، ونريد بذلك الوجاهة، والشفاعة، والزلفى، والنجاة عند الله من سخطه، ولا نقول: إنهم آلهة، أو مدبرون لما في السماوات والأرض، أو رازقوهم.

فقل: كلامك هذا هو مذهب أبي جهل، وأبي لهب، وأمثالهما.

فإن الكفار الذين يدعون عيسى، وعزيرا، والملائكة، والأولياء يريدون ذلك كما قال تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس: 18].

فإذا تأملت هذا تأملا صحيحا جيدا، عرفت أن الكفار يشهدون لله بتوحيد الربوبية، وهي التفرد بالخلق، والتدبير.

وكذلك النصارى منهم من يعبد الليل والنهار، ويزهد في الدنيا، ويتصدق بما دخل عليه، معتزل في صومعته عن الناس.

وهو مع هذا عدو لله، كافر مخلد في النار بسبب اعتقاده في عيسى، أو غيره من أولياء الله، يدعوه، ويذبح له، وينذر له.

وكذلك من الناس من يعبد الظلمة والنور.

التالي السابق


الخدمات العلمية