الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم القاعدة التي أجمع عليها أهل الأصول من الفحول هي أن العبرة بعموم المباني ، لا بخصوص المعاني .

وهذه ترشدك إلى أن الاحتجاج من أهل التوحيد على أهل الشرك بتلك الآيات الناعية على المشركين صحيح واقع في محله ، لا شنار عليه ، ولا غبار فيه .

وإنما يعرج على مثل هذه الشبه الضعيفة من لا عقل له ، ولا سمع ، ولا يستحق الخطاب ، ولا الجواب .

قال تعالى : وجعلوا لله شركاء الجن [الأنعام : 100] هذا نوع من جهالاتهم ، [ ص: 247 ] وضلالاتهم أنهم جعلوا الجن شركاءه سبحانه ، وعبدوهم كما عبدوه ، وعظموهم كما عظموه .

قال الحسن : أطاعوا الجن في عبادة الأوثان .

وقال الزجاج : فيما سولت لهم من شركهم .

وقيل : المراد بالجن هنا : الملائكة .

وقيل : نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله تعالى وإبليس أخوان .

ويقرب من هذا قول المجوس : إن للعالم صانعين ، هما : الرب ، والشيطان .

وهكذا القائلون : إن كل خير من النور ، وكل شر من الظلمة ، وهم «المانوية » أتباع «ماني » المصور المتنبي .

وخلقهم وهذا كالدليل القاطع على أن المخلوق لا يكون شريكا لله ، وكل ما في الكون محدث مخلوق ، فامتنع أن يكون شريكا له في ملكه .

وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ؛ أي : شقوا له هذه؛ لأن المشركين ادعوا أن الملائكة بنات الله ، والنصارى ادعوا أن المسيح ابن الله ، واليهود ادعوا أن عزيرا ابن الله ، وكثر ذلك منهم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم . [الأنعام : 101-102] : لا يخفى عليه من مخلوقاته خافية .

وقال تعالى : وأعرض عن المشركين [الأنعام : 106] هذا قبل نزول آية السيف : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [التوبة : 2] ، ولو شاء الله عدم إشراكهم ، ما أشركوا فيه ، إن الشرك بمشيئة الله سبحانه ، خلافا للمعتزلة .

والكلام في تقرير هذا على الوجه الذي يتعارف به علماء الكلام والميزان معروف ، لا فائدة في إيراده هاهنا .

قال ابن عباس : يقول الله : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين .

وقال تعالى : سيقول الذين أشركوا [الأنعام : 148] وقد وقع مقتضاه كما حكى [ ص: 248 ] عنهم سبحانه في سورة «النحل » : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا [النحل : 35] إلخ . لو شاء الله عدم شركهم ، وعدم تحريمهم : ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء .

ظنوا أن هذا القول يخلصهم عن الحجة التي ألزمهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما فعلوه حق ، ولو لم يكن حقا ، لأرسل الله إلى آبائهم الذين ماتوا على الشرك ، وعلى تحريم ما لم يحرمه الله ولا يأمرونهم بترك الشرك ، وبترك التحريم .

كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا . وقد تمسك القدرية ، والمعتزلة بهذه الآية ، ولا دليل لهم في ذلك على مذهب الجبر ، والاعتزال ؛ لأن أمر الله بمعزل عن مشيئته ، وإرادته ، ولا يلزم من ثبوت المشيئة دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام - .

قل هل عندكم من علم : أي : دليل صحيح يعد من العلم النافع ، وحجة وكتاب يوجب اليقين بأن الله راض بذلك، فتخرجوه لنا لننظر فيه ، ونتدبره ؟

والمقصود من هذا : تبكيتهم ؛ لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجة ، ويقوم به البرهان .

ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم ، فقال :

إن تتبعون إلا الظن الذي هو محل الخطأ ، ومكان الجهل .

وإن أنتم إلا تخرصون ؛ أي : تتوهمون مجرد توهم فقط كما يتوهم الخارص ، وتقولون على الله الباطل .

قل فلله الحجة البالغة [الأنعام : 149] على الناس ؛ أي : التي تنقطع عندها معاذيرهم ، وتبطل شبههم ، وظنونهم ، وتوهماتهم .

والمراد بها : الكتب المنزلة ، والرسل المرسلة ، وما جاءوا به من المعجزات .

قال الربيع بن أنس : لا حجة لأحد عصى الله ، أو أشرك به على الله.

بل له الحجة التامة على عباده ، فلو شاء لهداكم أجمعين ، ولكنه لم يشأ ذلك. [ ص: 249 ]

ومثله قوله تعالى : ولو شاء الله ما أشركوا ، [الأنعام : 107] ، و ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله [الأنعام : 107] ، ومثله كثير .

فالمنتفي في الخارج مشيئته هداية الكل ، وإلا فقد هدى بعضهم .

وعن ابن عباس : أنه قيل له : إن ناسا يقولون: ليس الشر بقدر ، فقال ابن عباس : بيننا وبين أهل القدر هذه الآية .

والعجز ، والكيس من القدر .

وقال علي بن زيد : انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية : قل فلله الحجة إلى قوله : أجمعين .

وقال تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا [الأنعام : 154] هذا نص ظاهر على تحريم الشرك .

وفي آخر هذه الآية : ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون .

وقال تعالى : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم [الأنعام : 161-163] وهو ملة إبراهيم - عليه السلام - .

دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا مائلا إلى الحق .

وفي «القاموس » : الحنيف ؛ كأمير : الصحيح الميل إلى الإسلام ، الثابت عليه ، وكل من حج ، وكان على دين إبراهيم .

وما كان من المشركين في العبادة ، والخلق ، والقضاء والقدر ، وسائر أفعاله ، لا يشاركه فيها أحد من خلقه .

وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين أي : المنقادين من هذه الأمة .

قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء : فيه توحيد الربوبية .

قال تعالى : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا [الأعراف : 33] أي : وأن تجعلوا لله شريكا لم ينزل عليكم به حجة ، وتسووه به في العبادة . [ ص: 250 ]

والمراد : التهكم بالمشركين لأن الله لا ينزل برهانه بأن يكون غيره شريكا له .

وقال تعالى : فلما آتاهما صالحا [الأعراف : 190-191] ، أي : ما طلباه من الولد الصالح ، وأجاب دعاءهما جعلا له شركاء فيما آتاهما .

قال كثير من المفسرين : إنه جاء إبليس إلى حواء ، وقال لها : إن ولدت ولدا ، فسميه باسمي ، فقالت : وما اسمك ؟ قال: الحارث ، لو سمى لها نفسه ، لعرفته ، فسمته : عبد الحارث .

فكان هذا شركة في التسمية ، ولم يكن شركا في العبادة .

وقد روي هذا بطرق وألفاظ عن جماعة من الصحابة ، ومن بعدهم .

ويدل له حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما ولدت حواء ، طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد ، فقال : سميه : عبد الحارث ؛ فإنه يعيشه فسمته : عبد الحارث ، فعاش ، فكان ذلك من وحي الشيطان ، وأمره » أخرجه أحمد ، والترمذي ، وحسنه ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والروياني ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه .

وفيه دليل على أن الجاعل شركا فيما آتاهما هو حواء دون آدم عليه السلام .

وقوله تعالى : جعلا بصيغة التثنية لا ينافي ذلك ؛ لأنه قد يسند فعل الواحد إلى اثنين ، بل إلى جماعة ، وهو شائع في كلام العرب .

وفي الكتاب العزيز من ذلك الكثير الطيب ، تصدى لبيانه صاحب تفسير «فتح البيان في مقاصد القرآن » ، فراجعه .

فتعالى الله عما يشركون أيشركون ما لا يخلق شيئا ، ولا يقدر على نفع لهم ، ولا دفع ضر عنهم، وهم يخلقون الضمير راجع إلى الشركاء ؛ أي : وهؤلاء الذين جعلوهم شركاء من الأصنام ، والشياطين مخلوقون . [ ص: 251 ]

وجمعهم جمع العقلاء ؛ لاعتقاد من جعلهم شركاء أنهم كذلك.

ولا يستطيعون لهم [الأعراف : 192] أي : لمن جعلهم شركاء نصرا إن طلبوه منهم ، ولا أنفسهم ينصرون إن حصل عليهم شيء من جهة غيرهم :

ومن عجز عن نصر نفسه ، فهو عن نصر غيره أعجز .

التالي السابق


الخدمات العلمية