الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المسألة الثالثة : روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما : أنه قال: لما قتل وحشي حمزة - رضي الله عنه - يوم «أحد » ، وكانوا قد وعدوه بالإعتاق إن هو فعل ذلك، ثم إنهم ما وفوا له بذلك.

فعند ذلك ندم هو وأصحابه ، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبذنبهم ، وأنه لا يمنعهم عن الدخول في الإسلام إلا قوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [الفرقان : 68] ، فقالوا : قد ارتكبنا كل ما في الآية .

فنزل قوله : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا [الفرقان : 70] .

فقالوا : هذا شرط شديد نخاف ألا نقوم به ، فنزل قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء : 48] .

فقالوا : نخاف ألا نكون من أهل مشيئته ، فنزل : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [الزمر : 53] فدخلوا عند ذلك في الإسلام
.

وطعن القاضي في هذه الرواية ، وقال : إن من يريد الإيمان لا يجوز منه المراجعة على هذا الحد .

ولأن قوله : إن الله يغفر الذنوب جميعا لو كان على إطلاقه ، لكان ذلك إغراء لهم بالثبات على ما هم عليه . [ ص: 336 ]

والجواب عنه : لا يبعد أن يقال : إنهم استعظموا قتل حمزة - رضي الله عنه - وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الحد ، فوقعت الشبهة في قلوبهم أن ذلك هل يغفر لهم أم لا ؟ فلهذا المعنى حصلت المراجعة .

وقوله : هذا إغراء بالقبيح ، فهو إنما يتم على مذهبه .

أما على قولنا : إنه تعالى فعال لما يريد ، فالسؤال ساقط ، والله أعلم .

ثم قال: ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما : أي : اختلق ذنبا غير مغفور .

يقال : افترى فلان الكذب : إذا اعتمله ، واختلقه .

وأصله من الفري بمعنى : القطع . انتهى .

وقال تحت تفسير الآية الثانية : اعلم أن هذه الآية مكررة في هذه السورة ، وفي تكرارها فائدتان :

الأولى : أن عمومات الوعيد ، وعمومات الوعد متعارضة في القرآن ، وأنه تعالى ما أعاد آية من آيات الوعيد بلفظ واحد مرتين ، وقد أعاد هذه الآية دالة على العفو والمغفرة بلفظ واحد في سورة واحدة .

وقد اتفقوا على أنه لا فائدة في التكرير إلا التأكيد .

فهذا يدل على أنه تعالى خص جانب الوعد والرحمة بمزيد التأكيد ، وذلك يقتضي ترجيح الوعد على الوعيد .

والفائدة الثانية : أن الآيات المتقدمة إنما نزلت في سارق الدرع .

وقوله : ومن يشاقق الرسول [النساء : 115] إلى آخر الآيات إنما نزلت في ارتداده .

فهذه الآية إنما يحسن اتصالها بما قبلها لو كان المراد أن ذلك السارق لو لم يرتد ، لم يصر محروما عن رحمتي ، ولكنه لما ارتد ، وأشرك بالله ، صار محروما قطعا عن رحمة الله تعالى . [ ص: 337 ]

ثم إنه أكد ذلك بأن شرح أن أمر الشرك عظيم عند الله تعالى ، فقال : ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا .

يعني : ومن لم يشرك بالله ، لم يكن ضلاله بعيدا ، فلا جرم لا يصير محروما عن رحمتي .

وهذه المناسبات دالة قطعا على دلالة هذه الآية على أن ما سوى الشرك مغفور قطعا ، سواء حصلت التوبة ، أو لم تحصل .

ثم إنه تعالى بين كون الشرك ضلالا بعيدا ، فقال : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله [النساء : 117] «إن » هاهنا معناها النفي ، ونظيره قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته [النساء : 159] .

التالي السابق


الخدمات العلمية