الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (7) قوله تعالى : منه آيات : يجوز أن تكون "آيات " رفعا بالابتداء والجار خبره . وفي الجملة على هذا وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفة . والثاني : أنها في محل نصب على الحال من "الكتاب " أي : هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال أي : منقسما إلى محكم ومتشابه ، ويجوز أن يكون "منه " هو الحال وحده ، و "آيات " رفع به على الفاعلية .

                                                                                                                                                                                                                                      و هن أم الكتاب يجوز أن تكون الجملة صفة للنكرة قبلها ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، وأخبر بلفظ الواحد وهو "أم " عن جمع ، وهو "هن " : إما لأن المراد كل واحدة منه أم ، وإما لأن المجموع بمنزلة آية واحدة كقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية ، وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع كقوله : وعلى سمعهم و :


                                                                                                                                                                                                                                      1163 - كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      [وقوله ] :


                                                                                                                                                                                                                                      1164 - ... ... ... ...     وأما جلدها فصليب



                                                                                                                                                                                                                                      [وقال الأخفش : "وحد " أم الكتاب "بالحكاية على تقدير الجواب [ ص: 26 ] كأنه قيل : ما أم الكتاب ؟ " ] فقال : هن أم الكتاب ، كما يقال : من نظير زيد ؟ فيقول قوم : "نحن نظيره " كأنهم حكوا ذلك اللفظ ، وهذا على قولهم : "دعني من تمرتان " أي : "مما يقال له تمرتان " . قال ابن الأنباري : "وهذا بعيد من الصواب في الآية ، لأن الإضمار لم يقم عليه دليل ، ولم تدع إليه حاجة " وقيل : لأنه بمعنى أصل الكتاب والأصل يوحد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : "وأخر " نسق على "آيات " ، و "متشابهات " نعت لأخر ، وفي الحقيقة "أخر " نعت لمحذوف تقديره : وآيات أخر متشابهات . قال أبو البقاء : "فإن قيل : واحدة " متشابهات "متشابهة ، وواحدة " أخر "أخرى ، والواحدة هنا لا يصح أن توصف بهذا الواحد فلا يقال ، أخرى متشابهة إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضا ، وليس المعنى على ذلك وإنما المعنى أن كل آية تشبه آية أخرى ، فكيف صح وصف هذا الجمع بهذا الجمع ، ولم يصح وصف مفرده بمفرده ؟ قيل : التشابه لا يكون إلا بين اثنين فصاعدا ، فإذا اجتمعت الأشياء المشابهة كان كل واحد منها مشابها للآخر ، فلما لم يصح التشابه إلا في حالة الاجتماع وصف الجمع بالجمع لأن كل واحد منها يشابه باقيها ، فأما الواحد فلا يصح فيه هذا المعنى ، ونظيره قوله : فوجد فيها رجلين يقتتلان فثنى الضمير وإن كان الواحد لا يقتتل . قلت : يعني أنه ليس من شرط صحة الوصف في التثنية أو الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات ، وإن كان الأصل ذلك ، كما أنه لا يشترط في إسناد الفعل إلى المثنى والمجموع صحة إسناده إلى كل واحد على حدته .

                                                                                                                                                                                                                                      وقريب من ذلك قوله : حافين من حول العرش قيل : ليس لحافين مفرد [ ص: 27 ] لأنه لو قيل : "حاف " لم يصح ، إذ لا يتحقق الحفوف في واحد فقط ، وإنما يتحقق بجمع يحيطون بذلك الشيء المحفوف ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : زيغ يجوز أن يكون مرفوعا بالفاعلية لأن الجار قبله صلة لموصول ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره الجار قبله .

                                                                                                                                                                                                                                      والزيغ : قيل : الميل ، وقال بعضهم : هو أخص من مطلق الميل ، فإن الزيغ لا يقال إلا لما كان من حق إلى باطل . قال الراغب : "الزيغ : الميل على الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغ وزال ومال تتقارب ، لكن " زاغ "لا يقال إلا فيما كان عن حق إلى باطل " انتهى . يقال : زاغ يزيغ زيغا وزيغوغة وزيغانا وزيوغا . قال الفراء : "والعرب تقول في عامة ذوات الياء مما يشبه زغت مثل : سرت وصرت وطرت : سيرورة وصيرورة وطيرورة ، وحدت حيدودة ، وملت ميلولة ، لا أحصي ذلك كثرة ، فأما ذوات الواو مثل : قلت ورضيت فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظ : الكينونة والديمومة من دام ، والهيعوعة من الهواع ، والسيدودة من سدت " . ثم ذكر كلاما كثيرا غير متعلق بما نحن فيه ، وقد تقدم الكلام على هذا المصدر ، وما ذكر الناس فيه ، وأنه قد سمع فيه الأصل وهو "كينونة " في قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1165 - ... ... ... ...     حتى يعود البحر كينونه



                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ما تشابه مفعول الاتباع ، وهي موصولة أو موصوفة ، ولا تكون مصدرية لعود الضمير من "تشابه " عليها إلا على رأي ضعيف . و "منه " حال من فاعل "تشابه " أي : تشابه حال كونه بعضه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 28 ] قوله : "ابتغاء " منصوب على المفعول له أي : لأجل الابتغاء ، وهو مصدر مضاف لمفعوله . والتأويل : مصدر أول يؤول . وفي اشتقاقه قولان أحدهما : أنه من آل يؤول أولا ومآلا . أي : عاد ورجع ، و "آل الرجل " من هذا عند بعضهم ، لأنهم يرجعون إليه في مهماتهم ، ويقولون : أولت الشيء فآل ، أي : صرفته لوجه لائق به فانصرف ، قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1166 - أؤول الحكم على وجهه     ليس قضائي بالهوى الجائر



                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : أولت الشيء فتأول ، فجعل مطاوعه تفعل ، وعلى الأول مطاوعه فعل ، وأنشد للأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      1167 - على أنها كانت تأول حبها     تأول ربعي السقاب فأصحبا



                                                                                                                                                                                                                                      يعني أن حبها كان صغيرا قليلا فآل إلى العظم ، كما يؤول السقب إلى الكبر . ثم قد يطلق على العاقبة والمرد ، لأن الأمر يصير إليهما .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه مشتق من : الإيالة وهي السياسة . تقول العرب : "قد إلنا وإيل علينا " أي : سسنا وساسنا غيرنا ، وكأن المؤول للكلام سائسه والقادر عليه وواضعه موضعه ، نقل ذلك عن النضر بن شميل . وفرق الناس بين التأويل والتفسير في الاصطلاح : بأن التفسير مقتصر به على ما لا يعلم إلا بالتوقيف كأسباب النزول ومدلولات الألفاظ ، وليس للرأي فيه مدخل ، والتأويل يجوز لمن حصلت عنده صفات أهل العلم وأدوات يقدر أن يتكلم بها إذا رجع بها إلى أصول وقواعد .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 29 ] وقوله : والراسخون يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأ والوقف على الجلالة المعظمة ، وعلى هذا فالجملة من قوله : "يقولون " خبر المبتدأ . والثاني : أنهم منسوقون على الجلالة المعظمة ، فيكونون داخلين في علم التأويل . وعلى هذا فيجوز في الجملة القولية وجهان ، أحدهما : أنها حال أي : يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك ، والثاني : أن تكون خبر مبتدأ مضمر أي : هم يقولون .

                                                                                                                                                                                                                                      والرسوخ : الثبوت والاستقرار ثبوتا متمكنا فهو أخص من مطلق الثبات قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1168 - لقد رسخت في القلب مني مودة     لليلى أبت آياتها أن تغيرا



                                                                                                                                                                                                                                      و آمنا به في محل نصب بالقول ، و "كل " مبتدأ ، أي كله أو كل منه ، والجار بعده خبره ، والجملة نصب بالقول أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية