الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 83 ] آ . (19) قوله تعالى : إن الدين عند الله : قرأ الكسائي بفتح الهمزة والباقون بكسرها . فأما قراءة الجماعة فعلى الاستئناف ، وهي مؤكدة للجملة الأولى . قال الزمخشري : "فإن قلت : ما فائدة هذا التوكيد ؟ قلت : فائدته أن قوله : " لا إله إلا هو "توحيد ، وقوله : " قائما بالقسط "تعديل ، فإذا أردفه قوله : إن الدين عند الله الإسلام فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وماعداه فليس في شيء من الدين عنده " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الكسائي ففيها أوجه ، أحدها : أنها بدل من "أنه لا إله إلا هو " على قراءة الجمهور في "أنه لا إله إلا هو " وفيه وجهان ، أحدهما : أنه من بدل الشيء من الشيء ، وذلك أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن العدل والتوحيد وهو هو في المعنى . والثاني : أنه بدل اشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني من الأوجه السابقة أن يكون "أن الدين " بدلا من قوله "قائما بالقسط " ثم لك اعتباران ، أحدهما : أن تجعله بدلا من لفظه فيكون محل "أن الدين " الجر . والثاني : أن تجعله بدلا من موضعه فيكون محلها نصبا . وهذا الثاني لا حاجة إليه وإن كان أبو البقاء ذكره ، وإنما صح البدل في المعنى ؛ لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل ، فيكون أيضا من بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة . ويجوز أن يكون بدل اشتمال لأن الدين مشتمل على القسط وهو العدل . وهذه التخاريج لأبي علي الفارسي ، وتبعه [ ص: 84 ] الزمخشري في بعضها . قال الشيخ : "وأبو علي معتزلي فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من العدل والتوحيد " قلت : ومن يرغب عن التوحيد والعدل من أهل السنة حتى يخص به المعتزلة ؟ وإنما رأى في كلام الزمخشري هذه الألفاظ كثيرا ، وهو عنده معتزلي ، فمن تكلم بالتوحيد والعدل كان عنده معتزليا .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال : "وعلى البدل من " أنه "خرجه هو وغيره ، وليس بجيد لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي مثله في كلام العرب وهو : " عرف زيد أنه لا شجاع إلا هو وبنو دارم ملاقيا للحروب لا شجاع إلا هو البطل الحامي أن الخصلة الحميدة هي البسالة "وتقريب هذا المثال : " ضرب زيد عائشة والعمران حنقا أختك "فحنقا حال من زيد ، وأختك بدل من عائشة ، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف ، وهو لا يجوز ، وبالحال لغير المبدل منه ، وهو لا يجوز ، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل " انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : "عرف زيد " هو نظير : "شهد الله " وقوله : "أنه لا شجاع إلا هو " نظير "أنه لا إله إلا هو " . وقوله : "وبنو دارم " نظير قوله : "والملائكة " . وقوله : "ملاقيا للحروب " نظير قوله : "قائما بالقسط ، وقوله " لا شجاع إلا هو "نظير قوله : " لا إله إلا هو "فجاء به مكررا كما في الآية ، وقوله : " البطل الحامي "نظير قوله : " العزيز الحكيم "وقوله " أن الخصلة الحميدة هي البسالة "نظير قوله : " أن الدين عند الله الإسلام " ولا يظهر لي منع ذلك ولا عدم صحة تركيبه حتى يقول " ليس بجيد "وبعيد أن يأتي عن العرب مثله " . وما ادعاه بقوله في المثال الثاني أن فيه الفصل بأجنبي فيه نظر ، إذ هذه الجمل صارت كلها كالجملة الواحدة لما اشتملت عليه من تقوية كلمات [ ص: 85 ] بعضها ببعض ، وأبو علي وأبو القاسم وغيرهما لم يكونوا في محل من يجهل صحة تركيب بعض الكلام وفساده .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الشيخ : "قال الزمخشري : وقرئا مفتوحين على أن الثاني بدل من الأول كأنه قيل : شهد الله بأن الدين عند الله الإسلام ، والبدل هو المبدل منه في المعنى ، فكان بيانا صريحا لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل " . قال : "فهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء " .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث من الأوجه : أن يكون "أن الدين " معطوفا على "أنه لا إله إلا هو " ، حذف منه حرف العطف ، قاله ابن جرير ، وضعفه ابن عطية ، ولم يبين وجه ضعفه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : "وجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف ، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع وبجملتي الاعتراض ، وصار في التركيب نظير قولك : " أكل زيد خبزا وعمرو سمكا "يعني ففصلت بين " زيد "وبين " عمرو " بـ " خبزا " ، وفصلت بين " خبزا "وبين " سمكا "بعمرو ، إذ الأصل قبل الفصل : " أكل زيد وعمرو خبزا وسمكا " .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن يكون معمولا لقوله : " شهد الله "أي : شهد الله بأن الدين ، فلما حذف الحرف جاز أن يحكم على موضعه بالنصب أو بالجر . فإن قلت : إنما يتجه هذا التخريج على قراءة ابن عباس ، وهي كسر إن الأولى ، وتكون حينئذ الجملة اعتراضا بين " شهد "وبين معموله كما قدمته ، وأما على قراءة [ ص: 86 ] فتح " أن "الأولى ، وهي قراءة العامة فلا يتجه ما ذكرته من التخريج ، لأن الأولى معمولة له استغنى بها . فالجواب : أن ذلك متجه أيضا مع فتح الأولى وهو أن تجعل الأولى على حذف لام العلة ، تقديره : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام لأنه لا إله إلا هو ، وكان يحيك في نفسي هذا التخريج مدة ، ولم أرهم ذكروه حتى رأيت الواحدي ذكره ، وقال : " وهذا معنى قول الفراء حيث يقول في الاحتجاج للكسائي : "إن شئت جعلت " أنه "على الشرط ، وجعلت الشهادة واقعة على قوله : " أن الدين عند الله الإسلام " وتكون " أن "الأولى يصلح فيه الخفض كقولك : " شهد الله لوحدانيته أن الدين عند الله الإسلام " . وهو كلام مشكل في نفسه ، ومعنى قوله : "على الشرط " أي : العلة ، سمى العلة شرطا لأن المشروط متوقف عليه كتوقف المعلول على علته ، فهو علة ، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم اعترض الواحدي على هذا التخريج بأنه لو كان كذلك لم يحسن إعادة اسم الله ولكان التركيب " أن الدين عند الله الإسلام " ، لأن الاسم قد سبق فالوجه الكناية ، ثم أجاب بأن العرب ربما أعادت الاسم موضع الكناية وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      1206 - لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا



                                                                                                                                                                                                                                      يعني أنه من باب إيقاع الظاهر موقع المضمر ، ويزيده هنا حسنا أنه في موضع تعظيم وتفخيم .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : أن تكون على حذف حرف الجر معمولة للفظ "الحكيم " كأنه [ ص: 87 ] قيل : الحكيم بأن ، أي : الحاكم بأن ، فحكيم مثال مبالغة محول من فاعل ، فهو كالعليم والخبير والبصير ، أي : المبالغ في هذه الأوصاف ، وإنما عدل عن لفظ "حاكم " إلى "حكيم " مع زيادة المبالغة لموافقة العزيز . ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع أن الدين عند الله هو الإسلام ، أو حكم في كل شريعة بذلك . وهذا الوجه ذكره الشيخ وكأنه من تخريجه ثم قال : "فإن قلت : لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، وهلا جعلته فعيلا بمعنى مفعل ، فيكون بمعنى محكم ، كما قالوا : أليم بمعنى مؤلم وسميع بمعنى مسمع من قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1207 - أمن ريحانة الداعي السميع      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب أنا لا نسلم أن فعيلا بمعنى مفعل ، وقد يؤول أليم وسميع على غير مفعل ، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور والشذوذ بحيث لا ينقاس ، بخلاف فعيل محول من فاعل فإنه كثير جدا خارج عن الحصر كعليم وسميع وقدير وحكيم وخبير وحفيظ ، إلى ألفاظ لا تحصى كثرة . وأيضا فإن العربي القح الباقي على سجيته لم يفهم عن " حكيم "إلا أنه محول من فاعل للمبالغة ، ألا ترى أنه لما سمع قارئا يقرأ : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم "أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق : " والله غفور رحيم "فقيل له : التلاوة : " والله عزيز حكيم " ، فقال : هكذا يكون : عز فحكم فقطع " ففهم من حكيم أنه محول للمبالغة السالفة من "حاكم " ، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه ، وهذا تخريج [ ص: 88 ] سهل سائغ جدا ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات المعقدة التي ينزه كتاب الله عنها . وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول ، ولا نجعل "أن الدين " معمولا لـ "شهد " كما زعموا وأن "إنه لا إله إلا هو " اعتراض - يعني بين الحال وصاحبها وبين "شهد " ومعموله ، وسيأتي إيضاح ذلك - بل نقول : معمول "شهد " هو "إنه " بالكسر على تخريج من خرج أن "شهد " لما كان بمعنى القول كسر ما بعده إجراء له مجرى القول ، أو نقول "إنه " معموله وعلقت ، ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي ، بخلاف أن لو كان مثبتا فإنك تقول : "شهدت إن زيدا لمنطلق " فتعلق بإن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت "أن " فقلت : شهدت أن زيدا منطلق ، فمن قرأ بفتح "أنه " فإنه لم ينو التعليق ، ومن كسر فإنه نوى التعليق ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا "انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الشيخ - لما ذكر الفصل والاعتراض بين كلمات هذه الآية - قال ما نصه : " وأما قراءة ابن عباس فخرج على إن الدين عند الله الإسلام هو معمول شهد ، ويكون في الكلام اعتراضان أحدهما : بين المعطوف عليه والمعطوف ، وهو "إنه لا إله إلا هو " ، والثاني : بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو : "لا إله إلا هو العزيز الحكيم " وإذا [ ص: 89 ] أعربنا "العزيز الحكيم " خبر مبتدأ محذوف كان ذلك ثلاثة اعتراضات . فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد أن يأتي بنظيرهن من كلام العرب ، وإنما حمل على ذلك العجمة وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب وحفظ أشعارها ، وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب أنه لن يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب ، بل لا بد من الاطلاع على كلام العرب والتطبع بطباعها والاستكثار من ذلك " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : ونسبته كلام أعلام الأمة إلى العجمة وعدم معرفتهم بكلام العرب وحملهم كلام الله على ما لا يجوز ، وأن هذا الوجه الذي ذكره هو تخريج سهل واضح غير مقبولة ولا مسلمة ، بل المتبادر إلى الذهن ما نقله الناس ، وتلك الاعتراضات بين أثناء كلمات الآية الكريمة موجود نظيرها في كلام العرب ، وكيف يجهل الفارسي والزمخشري والفراء وأضرابهم ذلك ، وكيف يتبجح باطلاعه على ما لم يطلع عليه مثل هؤلاء ، وكيف يظن بالزمخشري أنه لا يعرف مواقع النظم وهو المسلم له في علم المعاني والبيان والبديع ، ولا يشك أحد أنه لا بد لمن يتعرض إلى علم التفسير أن يعرف جملة صالحة من هذه العلوم ، وانظر إلى ما حكى صاحب " الكشاف "في خطبته عن الجاحظ وما ذكره في حق الجاهل بهذه العلوم ، ولكن الشيخ ينكر ذلك ويدعي أنه لا يحتاج إلى هذه العلوم البتة ، فمن ثم صدر ما ذكرته عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : عند الله ظرف ، العامل فيه لفظ "الدين " لما تضمنه من معنى الفعل . قال أبو البقاء : "ولا يكون حالا ، لأن " إن "لا تعمل في الحال " [ ص: 90 ] قلت : قد جوزوا في "ليت " وفي "كأن " وفي "ها " أن تعمل في الحال . قالوا : لما تضمنته هذه الأحرف من معنى التمني والتشبيه والتنبيه ، فإن للتأكيد فلتعمل في الحال أيضا ، فليست تتباعد عن "ها " التي للتنبيه ، بل هي أولى منها ، وذلك أنها عاملة و "ها " ليست بعاملة فهي أقرب لشبه الفعل من "ها " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بغيا فيه أوجه ، أحدها : أنه مفعول من أجله ، العامل فيه "اختلف " والاستثناء مفرغ . والتقدير : وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره . والثاني : أنه مصدر في محل نصب على الحال من "الذين " كأنه قيل : "ما اختلفوا إلا في هذه الحال ، وليس بقوي ، والاستثناء مفرغ أيضا . [الثالث : أنه منصوب على المصدر والعامل فيه مقدر ] كأنه لما قيل : " وما اختلف "دل على معنى : " وما بغى "فهو مصدر مؤكد ، وهذا قول الزجاج ، والأول قول الأخفش ، ورجحه أبو علي . ووقع بعد " إلا "مستثنيان وهما : " من بعد "و " بغيا "وقد تقدم تخريج ذلك وما ذكر الناس فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ومن يكفر " من "مبتدأ ، وفي خبره الأقوال الثلاثة ، أعني فعل الشرط وحده ، أو الجواب وحده ، أو كلاهما . وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدر أي : سريع الحساب له ، وقد تقدم تحقيق ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      آ .(20) وفتح الياء من "وجهي " هنا وفي الأنعام نافع وابن عامر وحفص ، وسكنها الباقون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ومن اتبعن في محل "من " أوجه ، أحدها : الرفع عطفا على [ ص: 91 ] التاء في "أسلمت " ، وجاز ذلك لوجود الفصل بالمفعول ، قاله الزمخشري وبه بدأ ، وكذلك ابن عطية . قال الشيخ : "ولا يمكن حمله على ظاهره ؛ لأنه إذا عطف على الضمير في نحو : " أكلت رغيفا وزيد "لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف ، وهنا لا يسوغ [فيه ] ذلك لأن المعنى ليس على : أسلموا هم وهو صلى الله عليه وسلم وجهه الله ، بل المعنى على أنه صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه لله ، وهم أسلموا وجوههم لله ، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على الضمير محذوف منه المفعول ، لا مشارك في مفعول " أسلمت "والتقدير : " ومن اتبعني وجهه أو أنه مبتدأ محذوف الخبر ، لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : ومن اتبعني كذلك أي : أسلموا وجوههم لله ، كما تقول : "قضى زيد نحبه وعمرو " أي : وعمرو كذلك ، أي : قضى نحبه " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : إنما صح في نحو : " أكلت رغيفا وزيد "المشاركة لإمكان ذلك ، وأما نحو الآية الكريمة فلا يتوهم أحد فيه المشاركة .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنه مرفوع بالابتداء والخبر محذوف كما تقدم تقريره . الثالث : أنه منصوب على المعية ، والواو بمعنى مع ، أي : أسلمت وجهي لله مع من اتبعني ، قاله الزمخشري أيضا . قال الشيخ : " ومن الجهة التي امتنع عطف "ومن " على الضمير إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل يمتنع كون " [ ص: 92 ] من " منصوبا على أنه مفعول معه ، لأنك إذا قلت : "أكلت رغيفا وعمرا " أي : مع عمرو دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف ، وقد أجاز الزمخشري هذا الوجه ، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال ؛ لأنه لا يجوز حذف المفعول مع كون الواو واو "مع " البتة " . قلت : فهم المعنى وعدم الإلباس يسوغ ما ذكره الزمخشري ، وأي مانع من أن المعنى : فقل : أسلمت وجهي لله مصاحبا لمن أسلم وجهه لله أيضا ، وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن محل " من "الخفض نسقا على اسم الله تبارك وتعالى ، وهذا الإعراب وإن كان ظاهره مشكلا ، فقد يؤول على معنى : جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له ولمن اتبعني بالحفظ له ، والتحفي بعلمه وبرأيه وبصحبته .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أثبت الياء في " اتبعني "نافع وأبو عمرو وصلا وحذفاها وقفا ، والباقون حذفوها فيهما موافقة للرسم ، وحسن ذلك أيضا كونها فاصلة ورأس آية نحو : " أكرمن وأهانن "وعليه قول الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      1208 - وهل يمنعني ارتيادي البلا     د من حذر الموت أن يأتين



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأعشى أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                      1209 - ومن شانئ كاسف وجهه     إذا ما انتسبت له أنكرن



                                                                                                                                                                                                                                      قال بعضهم : "يكثر حذف هذه الياء مع نون الوقاية خاصة ، فإن لم تكن نون فالكثير إثباتها " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 93 ] قوله : أأسلمتم صورته استفهام ومعناه الأمر ، أي : أسلموا ، كقوله تعالى : فهل أنتم منتهون أي : انتهوا ، قال الزمخشري : "يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضي حصوله لا محالة ، فهل أسلمتم بعد ، أم أنتم على كفركم ؟ وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلا سلكته : هل فهمتها أم لا ، لا أم لك ؟ ومنه قوله عز وجل : فهل أنتم منتهون بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر ، وفي هذا الاستفهام استقصاء وتعبير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه للحق " وهو كلام حسن جدا وقوله : " فقد اهتدوا " دخلت "قد على الماضي مبالغة في تحقق وقوع الفعل وكأنه قد قرب من الوقوع .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية