الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (45) قوله تعالى : إذ قالت الملائكة : في هذا الظرف أوجه ، أحدها : أن يكون منصوبا بيختصمون . الثاني : أنه بدل من " إذ يختصمون " وهو قول الزجاج . وفي هذين الوجهين بعد ، من حيث إنه يلزم اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الكلام ، ولم يكن ذلك لأن وقت الاختصام كان صغيرا جدا ووقت قول الملائكة بعد ذلك بأحيان . وقد استشعر الزمخشري هذا السؤال فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع كما تقول : "لقيته سنة كذا " يعني أن اللقاء إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا . الثالث : أن يكون بدلا من " إذ قالت الملائكة " أولا ، وبه بدأ الزمخشري كالمختار له ، وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدل والمبدل منه . الرابع : نصبه بإضمار فعل .

                                                                                                                                                                                                                                      والوحي : الإشارة السريعة ، ولتضمن السرعة قيل : "أمر وحي " [ ص: 173 ] وقيل : هو إلقاء معنى الكلام إلى من يريد إعلامه ، والوحي يكون بالرمز والإشارة قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1280 - لأوحت إلينا والأنامل رسلها ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : فأوحى إليهم أن سبحوا أي : أشار إليهم ، ويكون بالكتابة ، قال زهير :


                                                                                                                                                                                                                                      1281 - أتى العجم والآفاق منه قصائد     بقين بقاء الوحي في الحجر الأصم



                                                                                                                                                                                                                                      ويطلق الوحي على الشيء المكتوب ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1282 - فمدافع الريان عري رسمها     خلقا كما ضمن الوحي سلامها



                                                                                                                                                                                                                                      قيل : الوحي جمع : وحي كفلس وفلوس ، وكسرت الحاء إتباعا . والوحي : الإلهام : وأوحى ربك إلى النحل ، والوحي للرسل يكون بأنواع مذكورة في التفسير .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بكلمة منه في محل جر صفة لكلمة ، والمراد بالكلمة هنا عيسى ، وسمي كلمة لوجوده بها وهو قوله : كن فيكون فهو من باب إطلاق السبب على المسبب . و " اسمه " مبتدأ ، و " المسيح " خبره . و " عيسى " بدل منه أو عطف بيان . قال أبو البقاء : "ولا يكون خبرا ثانيا لأن تعدد الأخبار يوجب [ ص: 174 ] تعدد المبتدأ ، والمبتدأ هنا مفرد ، وهو قوله : " اسمه "ولو كان " عيسى " خبرا آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها على تأنيث الكلمة " قلت : هذا على رأي ، وأما من يجيز ذلك فقد أعرب " عيسى " خبرا ثانيا ، وأعربه بعضهم خبر مبتدأ محذوف أي : هو عيسى ، فهذه ثلاثة أوجه في " عيسى " ، ويجوز على الوجه الثالث وجه رابع وهو النصب بإضمار "أعني " لأن كل ما جاز قطعه رفعا جاز قطعه نصبا .

                                                                                                                                                                                                                                      والألف واللام في " المسيح " للغلبة كهي في الصعق والعيوق وفيه وجهان ، أحدهما : أنه فعيل بمعنى فاعل محول منه مبالغة ، فقيل : لأنه مسح الأرض بالسياحة ، وقيل : لأنه يمسح ذا العاهة فيبرأ ، وقيل : بمعنى مفعول لأنه مسح بالبركة أو لأنه مسيح القدم ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1283 - بات يقاسيها غلام كالزلم     خدلج الساقين ممسوح القدم



                                                                                                                                                                                                                                      أو لمسح وجهه بالملاحة ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1284 - على وجه مي مسحة من ملاحة      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن وزنه مفعل من السياحة وعلى هذا كله فهو منقول من الصفة . وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية : "مسيخا " فغير ، قال الشيخ : [ ص: 175 ] " فعلى هذا يكون اسما مرتجلا ليس مشتقا من المسح ولا من السياحة " قلت : قوله "ليس مشتقا " صحيح ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مرتجلا ولا بد ، لاحتمال أن يكون في لغتهم منقولا من شيء عندهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأتى بالضمير في قوله : " اسمه " مذكرا وإن كان عائدا على الكلمة مراعاة للمعنى ، إذ المراد بها مذكر .

                                                                                                                                                                                                                                      و " ابن مريم " يجوز أن يكون صفة لعيسى ، قال ابن عطية : " وعيسى خبر مبتدأ محذوف ، ويدعو إلى هذا كون قوله " ابن مريم " صفة لعيسى ، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون ألف ، وأما على البدل أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون " ابن مريم "صفة لعيسى ، لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص . هذه النزعة لأبي علي ، وفي صدر الكلام نظر " انتهى . قلت : فقد حتم كونه صفة لأجل كتبه بدون ألف ، ثم قال : "وأما على البدل أو عطف البيان فلا يكون ابن مريم صفة لعيسى " يعني بدل عيسى من المسيح ، فجعله غير صفة له مع وجود الدليل الذي ذكره وهو كتبه بغير ألف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد منع أبو البقاء أن يكون "ابن مريم " بدلا أو صفة لعيسى قال : "لأن ابن مريم ليس باسم ، ألا ترى أنك لا تقول : " هذا الرجل ابن عمرو "إلا إذا كان قد علق عليه علما " قلت : وهذا التعليل الذي ذكره إنما ينهض في عدم كونه بدلا ، وأما كونه صفة فلا يمنع ذلك ، بل إذا كان اسما امتنع كونه صفة ، إذ يصير في حكم الأعلام ، والأعلام لا توصف به ، ألا ترى أنك إذا سميت رجلا بابن عمرو امتنع أن يقع "ابن عمرو " صفة والحالة هذه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "فإن قلت : لم قيل : اسمه المسيح عيسى ابن [ ص: 176 ] مريم ، وهذه ثلاثة أشياء : الاسم منها عيسى ، وأما المسيح والابن فلقب وصفة ؟ قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذي يعرف ويتميز ممن سواه بمجموع هذه الثلاثة " انتهى فظهر من كلامه أن مجموع الألفاظ الثلاثة إخبار عن اسمه ، بمعنى أن كلا منها ليس مستقلا بالخبرية بل هو من باب : هذا حلو حامض ، وهذا أعسر يسر ونظيره قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1285 - كيف أصبحت كيف أمسيت مما     يزرع الود في فؤاد الكريم



                                                                                                                                                                                                                                      أي : مجموع كيف أصبحت ، وكيف أمسيت ، فكما جاز تعدد المبتدأ لفظا من غير عاطف والمعنى على المجموع فكذلك في الخبر ، وقد أنشدت عليه أبياتا كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1286 - ... ... ... ... فهذا بتي     مقيظ مصيف مشتي



                                                                                                                                                                                                                                      وقد زعم بعضهم أن "المسيح " ليس باسم لقب له بل هو صفة كالضارب والظريف ، قال : "وعلى هذا ففي الكلام تقديم وتأخير ، إذ المسيح صفة لعيسى والتقدير : اسمه عيسى المسيح " . وهذا لا يجوز ، أعني تقديم الصفة على الموصوف ، لكنه يعني هو صفة له في الأصل ، والعرب إذا قدمت ما هو صفة في الأصل جعلوه مبنيا على العامل قبله وجعلوا الموصوف بدلا من صفته في الأصل نحو قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 177 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1287 - وبالطويل العمر     عمرا حيدرا



                                                                                                                                                                                                                                      الأصل : وبالعمر الطويل ، هذا في المعارف ، وأما في النكرات فينصبون الصفة حالا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشيخ : "ولا يصح أن يكون " المسيح "في هذا التركيب صفة لأن المخبر به على هذا لفظ ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال ، إذ لفظ عيسى ليس المسيح ، ومن قال : إنهما اسمان قال : فقدم المسيح على عيسى لشهرته . قال ابن الأنباري : " وإنما قدم - بدئ بلقبه - لأن المسيح أشهر من عيسى لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه به ، وعيسى قد يقع على عدد كثير فقدمه لشهرته ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم " ، فهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري [لقب ] لا اسم . وقال أبو إسحاق : " وعيسى معرب من أيسوع وإن جعلته عربيا لم تصرفه في معرفة ولا نكرة ، لأن فيه ألف التأنيث ، ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسه ، وقام عليه " ، وقال الزمخشري : " ومشتقهما - يعني المسيح وعيسى - من المسح والعيس كالراقم على الماء " . وقد تقدم الكلام على عيسى ومريم واشتقاقهما وما ذكر الناس في ذلك في سورة البقرة فأغنى عن إعادته .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وجيها حال وكذلك قوله : ومن المقربين وقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية