الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (59) قوله تعالى : إن مثل عيسى : جملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها تعلقا صناعيا بل معنويا ، وزعم بعضهم أنها جواب لقسم ، وذلك القسم هو قوله : والذكر الحكيم كأنه قيل : أقسم بالذكر الحكيم إن مثل عيسى ، فيكون الكلام قد تم عند قوله : "من الآيات " ثم استأنف قسما ، فالواو حرف جر لا حرف عطف ، وهذا بعيد أو ممتنع ، إذ فيه تفكيك لنظم القرآن وإذهاب لرونقه وفصاحته .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : خلقه من تراب في هذه الجملة وجهان ، أظهرهما : أنها مفسرة لوجه التشبيه بين المثلين ، فلا محل لها حينئذ من الإعراب . والثاني : أنها في محل نصب على الحال من آدم عليه السلام و "قد " معه مقدرة ، والعامل فيها معنى التشبيه ، والهاء في "خلقه " عائدة على آدم ، ولا تعود على عيسى لفساد [ ص: 219 ] المعنى ، وقال ابن عطية : "ولا يجوز أن يكون " خلقه "صلة لآدم ولا حالا منه ، قال الزجاج : " إذ الماضي لا يكون حالا أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمن تفسير الشأن "قال الشيخ : " وفيه نظر " ، ولم يبين وجه النظر ، والظاهر من هذا النظر أن الاعتراض وهو قوله : " لا يكون حالا أنت فيها "غير لازم ، إذ تقدير " قد "معه يقربه من الحال ، وقد يظهر الجواب عما قاله الزجاج من قول الزمخشري : " إن المعنى : قدره جسدا من طين ثم قال له : كن ، أي أنشأه بشرا " . قال الشيخ : " ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء لا بمعنى التقدير لم يأت بقوله "كن " لأن ما خلق لا يقال له : كن ، ولا ينشأ إلا إن كان معنى "ثم قال له كن " عبارة عن نفخ الروح فيه . "قلت : قد تعرض الواحدي لهذه المسألة فأتقنها فقال : " وهذا - يعني قوله خلقه من تراب - ليس بصلة لآدم ولا صفة ، لأن الصلة للمبهمات والصفة للنكرات ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير لحال آدم عليه السلام "قال : " قال الزجاج "وهذا كما تقول في الكلام : " مثلك كمثل زيد "تريد أنك تشبهه في فعل ثم تخبر بقصة زيد ، فتقول : فعل كذا وكذا " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : كن فيكون اختلفوا في المقول له : كن ، فالأكثرون على أنه آدم عليه السلام ، وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية ، لأنه إنما يقول له : "كن " قبل أن يخلقه لا بعده ، وها هنا يقول : "خلقه " ثم قال له : كن ، [ ص: 220 ] والجواب : أن الله تعالى أخبرنا أولا أنه خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى ، ثم ابتدأ خبرا آخر ، أراد أن يخبرنا به فقال : إني مخبركم أيضا بعد خبري الأول أني قلت له : "كن " فكان ، فجاء بثم لمعنى الخبر الذي تقدم والخبر الذي تأخر في الذكر ، لأن الخلق تقدم على قوله "كن " ، وهذا كما تقول : "أخبرك أني أعطيك اليوم ألفا ، ثم أخبرك أني أعطيتك أمس قبله ألفا " فأمس متقدم على اليوم ، وإنما جاء بثم لأن خبر اليوم متقدم خبر أمس ، وجاء خبر أمس بعد مضي خبر اليوم ، ومثله قوله : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وقد خلقها بعد خلق زوجها ، ولكن هذا على الخبر دون الخلق ، لأن التأويل : أخبركم أني قد خلقتكم من نفس واحدة ؛ لأن حواء قد خلقت من ضلعه ، ثم أخبركم أني خلقت زوجها منها ، ومثل هذا مما جاء في الشعر قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1311 - إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده



                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن الأب متقدم له والجد متقدم للأب ، فالترتيب يعود إلى الخبر لا إلى الوجود ، ويجوز أن يكون المراد أنه خلقه قالبا من تراب ثم قال له : كن بشرا فيصح النظم . وقال بعضهم : المقول له كن : عيسى ، ولا إشكال على هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فيكون يجوز أن يكون على بابه من كونه مستقبلا ، والمعنى : فيكون كما يأمر الله فيكون حكاية للحال التي يكون عليها آدم ، ويجوز أن [ ص: 221 ] يكون "فيكون " بمعنى "فكان " ، وعلى هذا أكثر المفسرين والنحويين ، وبهذا فسره ابن عباس رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      والمثل هنا : منهم من فسره بمعنى الحال والشأن ، قال الزمخشري : "أي : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم " ، وعلى هذا التفسير فالكاف على بابها من كونها حرف تشبيه ، وفسر بعضهم المثل بمعنى الصفة ، قال ابن عطية : "وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصور من آدم ، إذ الناس كلهم مجمعون [على] أن الله خلقه من تراب من غير فحل ، وكذلك قوله : مثل الجنة عبارة عن المتصور منها ، والكاف في " كمثل "اسم على ما ذكرناه من المعنى " . قال الشيخ : "ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وبين من جعل المثل بمعنى الشأن والحال وبمعنى الصفة " . قلت : قد تقدم في أول البقرة أن المثل قد يعبر به عن الصفة وقد لا يعبر به عنها ، فدل ذلك على تغايرهما ، وقد مر تفسيره وعبارة الناس فيه ، ويدل على ذلك ما قاله صاحب "ري الظمآن " عن الفارسي قال : "قيل : المثل بمعنى الصفة ، وقولك : صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد ، على هذا جل اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارسي الجميع ، وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة ، إنما المثل التشبيه ، على هذا تدور تصاريف [ ص: 222 ] الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه ، ومعنى المثل في كلامهم أنها كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور ويقابل بها الأحوال " قلت : فقد فرق بين لفظ المثل في الاصطلاح وبين الصفة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : إن الكاف زائدة ، وبعضهم قال : إن "مثلا " زائد . فقد تحصل في الكاف ثلاثة أقوال ، أظهرها : أنها على بابها من الحرفية وعدم الزيادة ، وقد تقدم تحقيقه . وقال الزمخشري : "فإن قلت : كيف شبه به وقد وجد هو بغير أب ، ووجد آدم بغير أب ولا أم ؟ قلت : هو مثله في أحد الطرفين ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به ، لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شبه به في أنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران ، ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته . وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له ، قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له ، قالوا : فإنه كان يحيي الموتى ، قال : فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وحزقيل أحيا ثمانية آلاف . قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص . قال : فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم خرج سالما " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : من تراب فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلق بـ "خلقه " أي : ابتداء خلقه من هذا الجنس ، والثاني : أنه حال من مفعول "خلقه " تقديره : خلقه كائنا من تراب ، وهذا لا يساعده المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية