الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (103) قوله تعالى : بحبل : الحبل في الأصل هو السبب ، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل ، وأصله في الأجرام واستعماله في المعاني من باب المجاز ، ويجوز أن يكون حينئذ من باب الاستعارة ، ويجوز أن يكون من باب التمثيل ، ومن كلام الأنصار رضي الله عنهم : " يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها " - يعنون العهود والحلف - . قال الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      1371 - وإذا تجوزها حبال قبيلة أخذت من الأخرى إليك حبالها



                                                                                                                                                                                                                                      يعني العهود ، قيل : والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف فيأخذ من القبيلة عهدا إلى أخرى ، ويعطى سهما أو حبلا يكون معه كالعلامة ، فسمي العهد حبلا لذلك ، وهذا معنى غير طائل ، بل سمي العهد حبلا للتوصل به إلى الغرض . وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1372 - ما زلت معتصما بحبل منكم      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بالحبل هنا القرآن ، وفي الحديث الطويل : "هو حبل الله المتين " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 333 ] وقوله : "جميعا " حال من فاعل "اعتصموا " ، و " بحبل الله " متعلق به . قوله : " ولا تفرقوا " قرأه البزي بتشديد التاء وصلا ، وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله : ولا تيمموا ، والباقون بتخفيفها على الحذف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :" نعمة الله" مصدر مضاف لفاعله إذ هو المنعم ، و "عليكم " يجوز أن يكون متعلقا بنفس "نعمة " لأن هذه المادة تتعدى بـ "على " [نحو : ] للذي أنعم الله عليه ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من "نعمة " فيتعلق بمحذوف أي : مستقرة وكائنة عليكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إذ كنتم "إذ " منصوبة بنعمة ظرفا لها ، ويجوز أن يكون متعلقا بالاستقرار الذي تضمنه "عليكم " إذا قلنا : إن "عليكم " حال من النعمة ، وأما إذا علقنا "عليكم " بنعمة تعين الوجه الأول . وجوز الحوفي أن يكون منصوبا باذكروا ، يعني مفعولا به لا أنه ظرف له لفساد المعنى ، إذ "اذكروا " مستقبل ، و "إذ " ماض .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فأصبحتم أصبح من أخوات "كان " فإذا كانت ناقصة كانت مثل "كان " في رفع الاسم ونصب الخبر ، وإذا كانت تامة رفعت فاعلا واستغنت به ، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال ، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح تقول : "أصبح زيد " أي دخل في الصباح ، ومثلها في ذلك "أمسى " ، قال تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وفي أمثالهم : "إذا سمعت بسرى القين فاعلم [ ص: 334 ] أنه مصبح " لأن القين - وهو الحداد - ربما قلت صناعته في أحياء العرب فيقول : أنا غدا مسافر ليأتوه الناس بحوائجهم فيقيم ويترك السفر ، فأخرجوه مثلا لمن يقول قولا ويخالفه ، فالمعنى أنه مقيم في الصباح ، وتكون بمعنى "صار " عملا ومعنى كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1373 - فأصبحوا كأنهم ورق جف     ف فألوت به الصبا والدبور



                                                                                                                                                                                                                                      أي : صاروا . و " إخوانا " خبرها ، وجوزوا فيها هنا أن تكون على بابها من دلالتها على اتصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح ، وأن تكون بمعنى صار ، وأن تكون التامة ، أي : دخلتم في الصباح ، فإذا كانت ناقصة على بابها فالأظهر أن يكون "إخوانا " خبرها .

                                                                                                                                                                                                                                      و "بنعمته " متعلق بـ "إخوانا " ، لما فيه من معنى الفعل أي : تآخيتم بنعمته ، والباء للسببية . وجوز الشيخ أن يتعلق بأصبحتم ، وقد عرفت ما فيه من الخلاف ، وجوز غيره أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل "أصبحتم " أي : فأصبحتم إخوانا ملتبسين بنعمته ، أو حال من "إخوانا " لأنه في الأصل صفة له . وجوزوا أن يكون "بنعمته " هو الخبر ، و "إخوانا " حال ، والباء بمعنى الظرفية ، وإذا كانت بمعنى "صار " جرى فيها ما تقدم من جميع هذه الأوجه ، وإذا كانت تامة فإخوانا حال ، و "بنعمته " فيه ما تقدم من الأوجه خلا الخبرية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 335 ] قال ابن عطية : " فأصبحتم " عبارة عن الاستمرار ، وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع :


                                                                                                                                                                                                                                      1374 - أصبحت لا أحمل السلاح ولا     أملك رأس البعير إن نفرا



                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : "وهذا الذي ذكره من أن " أصبح "للاستمرار ، وعلله بما ذكره لم أر أحدا من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تستعمل بالوجهين اللذين ذكرناهما " قلت : وهذا الذي ذكره ابن عطية معنى حسن ، وإذا لم ينص عليه النحويون لا يدفع ، لأن النحاة غالبا إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ ، وأما المعاني المفهومة من فحوى الكلام فلا حاجة لهم بالكلام عليها غالبا .

                                                                                                                                                                                                                                      والإخوان : جمع أخ ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه وعند غيره هي جمع . وقال بعضهم : "إن الأخ في النسب يجمع على " إخوة " ، وفي الدين على " إخوان " ، هذا أغلب استعمالهم ، قال تعالى : إنما المؤمنون إخوة ، ونفس هذه الآية تؤيد ما قاله لأن المراد هنا ليس إخوة النسب إنما المراد إخوة الدين والصداقة ، قال أبو حاتم : " ثم قال أهل البصرة : الإخوة في النسب والإخوان في الصداقة "قال : " وهذا غلط ، يقال للأصدقاء والأنسباء [ ص: 336 ] إخوة وإخوان ، قال تعالى : إنما المؤمنون إخوة لم يعن النسب ، وقال تعالى : أو بيوت إخوانكم وهذا في النسب "قلت : رد أبي حاتم يتجه على هذا النقل المطلق ، ولا يرد على النقل الأول لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : على شفا شفا الشيء : طرفه وحرفه ، وهو مقصور من ذوات الواو ، يثنى بالواو نحو : شفوين ، ويكتب بالألف ، ويجمع على أشفاء ، ويستعمل مضافا إلى أعلى الشيء وإلى أسفله ، فمن الأول : شفا جرف ومن الثاني هذه الآية ، وأشفى على كذا أي : قاربه ، ومنه أشفى المريض على الموت ، قال يعقوب : "يقال للرجل عند موته ، وللقمر عند محاقه ، وللشمس عند غروبها : " ما بقي منه - أو منها - إلا شفا "أي : إلا قليل " . وقال بعضهم : يقال لما بين الليل والنهار عند غروب الشمس إذا غاب بعضها : شفا ، وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      1375 - أدركته بلا شفا أو بشفا     والشمس قد كادت تكون دنفا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : "والشفاء من المرض موافاة شفا السلامة ، وصار اسما للبرء ، والشفا مذكر " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما عود الضمير في "منها " ففيه أوجه ، أحدها : أنه عائد على "حفرة " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 337 ] والثاني : أنه عائد على "النار " قال الطبري : "إن بعض الناس يعيده على الشفا ، وأنث من حيث كان الشفا مضافا إلى مؤنث ، كما قال جرير :


                                                                                                                                                                                                                                      1376 - أرى مر السنين أخذن مني     كما أخذ السرار من الهلال



                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عطية : " وليس الأمر كما ذكروا ، لأنه لا يحتاج في الآية إلى مثل هذه الصناعة ، إلا لو لم نجد للضمير معادا إلا الشفا ، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ويعضده المعنى المتكلم فيه فلا يحتاج إلى تلك الصناعة "قال الشيخ : " وأقول : لا يحسن عوده إلا على الشفا ؛ لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه ، وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : "كان زيد غلام جعفر " لم يكن جعفر محدثا عنه ، وليس أحد جزأي الإسناد ، وكذا لو قلت : "زيد ضرب غلام هند " لم تحدث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفرا وهندا مخصصا للمحدث عنه ، وأما ذكر النار فإنما ذكر لتخصيص الحفرة ، وليست أيضا أحد جزأي الإسناد ، وليست أيضا محدثا عنها ، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، لأن الإنقاذ من الشفا [يستلزم الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا ] فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 338 ] وقال الزجاج : " وقوله : "منها " الكناية راجعة إلى النار لا إلى الشفا ؛ لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة " . وقال غيره : " يعود على الحفرة ، فإذا أنقذهم الله من الحفرة فقد أنقذهم من شفاها لأن شفاها منها " . قال الواحدي : "على أنه يجوز أن يذكر المضاف والمضاف إليه ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه دون المضاف ، كقول جرير : "

                                                                                                                                                                                                                                      أرى مر السنين أخذن

                                                                                                                                                                                                                                      "البيت . فذكر مر السنين ، ثم أخبر عن السنين ، وكذلك قول العجاج :


                                                                                                                                                                                                                                      1377 - طول الليالي أسرعت في نقضي     طوين طولي وطوين عرضي



                                                                                                                                                                                                                                      قال : " وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه ، فإن مر السنين هو السنون ، وكذلك شفا الحفرة من الحفرة ، فذكر الشفا وعادت الكناية إلى الحفرة "قلت : وهذان القولان نص في رد ما قاله الشيخ ، إلا أن المعنى الذي ذكره أولى ، لأنه إذا أنقذهم من طرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة ، وما ذكره من الصناعة أيضا واضح .

                                                                                                                                                                                                                                      والإنقاذ : التخليص والتنحية ، قال الأزهري : " يقال أنقذته ونقذته واستنقذته وتنقذته بمعنى ، ويقال : "فرس نقيذ " إذا كان مأخوذا من قوم آخرين لأنه استنقذ منهم ، والحفرة : فعلة بمعنى مفعولة كغرفة بمعنى مغروفة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : كذلك يبين الله نعت لمصدر محذوف أو حال من ضميره أي : [ ص: 339 ] يبين لكم تبيينا مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة . وقوله : من النار صفة لحفرة فيتعلق بمحذوف .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية