الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (113) قوله تعالى : ليسوا سواء : الظاهر في هذه الآية أن الوقف على "سواء " تام ، فإن الواو اسم "ليس " ، و "سواء " خبر ، والواو تعود على أهل الكتاب المتقدم ذكرهم ، والمعنى : أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر لقوله : منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون فانتفى استواؤهم . و "سواء " في الأصل مصدر فلذلك وحد ، وقد تقدم تحقيقه أول البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عبيدة : "الواو في " ليسوا "علامة جمع وليست ضميرا ، واسم " ليس "على هذا " أمة "و " قائمة "صفتها ، وكذا " يتلون " ، وهذا على لغة " أكلوني البراغيث "كقوله الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1389 - يلومونني في اشتراء النخيـ ل أهلي فكلهم ألوم



                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : " وهي لغة ضعيفة " . ونازع السهيلي النحويين في كونها ضعيفة ، ونسبها بعضهم لأزد شنوءة ، وكثيرا ما جاء عليها الحديث ، وفي القرآن مثلها ، وسيأتي تحقيق هذا في المائدة بزيادة بيان .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 355 ] قال ابن عطية : " وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود ، ولم يبين وجه الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم "ليس " هو "أمة قائمة " فقط ، وأنه لا محذوف ثم ، إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردودا ، إلا أن بعضهم رد قوله بأنها لغة ضعيفة ، وقد تقدم ما فيها والتقدير الذي يصح به المعنى ، أي : ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة ، فهذا تقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عبيدة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفراء : "إن الوقف لا يتم على " سواء " ، فجعل الواو اسم " ليس "و " سواء "خبرها ، كما قال الجمهور ، و " أمة "مرتفعة بـ " سواء "ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستويا منهم أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة ، فحذفت الجملة المعادلة لدلالة القسم الأول عليها كقول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1390 - دعاني إليها القلب إني لأمرها     سميع فما أدري أرشد طلابها



                                                                                                                                                                                                                                      أي : أم غي ، فحذف " الغي "لدلالة ضده عليه ، ومثله قول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1391 - أراك فما أدري أهم هممته     وذو الهم قدما خاشع متضائل



                                                                                                                                                                                                                                      أي : أهم هممته أم غيره ، فحذف للدلالة ، وهو كثير ، قال الفراء : " لأن المساواة تقتضي شيئين كقوله سواء العاكف فيه والباد ، وقوله سواء [ ص: 356 ] محياهم ومماتهم . وقد ضعف قول الفراء من حيث الحذف ومن حيث وضع الظاهر موضع المضمر ، إذ الأصل : منهم أمة قائمة ، فوضع "أهل الكتاب " موضع الضمير .

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه أن يكون " ليسوا سواء " جملة تامة ، وقوله : من أهل الكتاب أمة جملة برأسها ، وقوله : يتلون جملة أخرى مبينة لعدم استوائهم ، كما جاءت الجملة من قوله : تأمرون بالمعروف إلخ مبينة للخيرية . ويجوز أن يكون "يتلون " في محل رفع صفة لأمة .

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن يكون حالا من "أمة " لتخصصها بالنعت ، وأن يكون حالا من الضمير في "قائمة " ، وعلى كونها حالا من "أمة " يكون العامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الجار ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستكن في هذا الجار لوقوعه خبرا لأمة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : آناء الليل ظرف لـ "يتلون " . والآناء : الساعات ، واحدها : "أنى " بفتح الهمزة والنون بزنة "عصا " أو "إنى " بكسر الهمزة وفتح النون بزنة "معى " ، أو "أني " بالفتح والسكون بزنة "ظبي " أو : إني "بالكسر والسكون بزنة " نحي " ، أو " إنو "بالكسر والسكون مع الواو بزنة " جرو " ، فالهمزة في " آناء "منقلبة عن ياء على الأقوال الأربعة كرداء ، وعن واو على القول الأخير ، نحو : " كساء "وستأتي بقية هذه المادة في مواضع .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يجوز أن يكون " آناء الليل "ظرفا لـ " قائمة "قال أبو البقاء : " لأن "قائمة " قد وصفت فلا تعمل فيهما بعد الصفة "وهذا على التقدير أن يكون " [ ص: 357 ] يتلون "وصفا لقائمة ، وفيه نظر ؛ لأن المعنى ليس على جعل هذه الجملة صفة لما قبلها ، بل على الاستئناف للبيان المتقدم ، وعلى تقدير جعلها صفة لما قبلها فهي صفة لـ " أمة "لا لـ " قائمة "لأن الصفة لا توصف ، إلا أن يكون معنى الصفة الثانية لائقا بما قبلها نحو : " مررت برجل ناطق فصيح "فـ " فصيح "صفة لناطق ، لأن معناه لائق به . وبعضهم يجعله وصفا لرجل ، وإنما المانع من تعلق هذا الظرف بـ " قائمة "ما ذكرته من استئناف جملته .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وهم يسجدون يجوز أن تكون حالا من فاعل " يتلون "أي : يتلون القرآن وهم ساجدون ، وهذا قد يكون في شريعتهم مشروعية التلاوة في السجود بخلاف شريعتنا ، وبهذا يرجح قول من يقول : إنهم غير أمة محمد . ويجوز أن تكون حالا من الضمير في " قائمة "قاله أبو البقاء . وفيه ضعف للاستئناف المذكور ، ويجوز أن تكون مستأنفة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية