الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (120) وقرأ العامة : إن تمسسكم بالتأنيث ، مراعاة للفظ "حسنة " ، وقرأ أبو عبد الرحمن بالياء من تحت ، لأن تأنيثها مجازي ، وقياسه أن يقرأ : "وإن يصبكم سيئة " بالتذكير أيضا ، ولا أحفظ عنه فيها شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إن الله عليم بذات الصدور يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، أخبر تعالى بذلك ؛ لأنهم كانوا يخفون غيظهم ما أمكنهم ، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد ، ويحتمل أن تكون جملة المقول أي : قل لهم كذا وكذا فتكون في محل نصب بالقول . ومعنى قوله "بذات " أي : بالمضمرات ذوات الصدور ، فـ "ذات " هنا تأنيث "ذي " بمعنى صاحب ، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه أي : عليم بالمضمرات صاحبة الصدور ، وجعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها وعدم انفكاكها عنها نحو : أصحاب الجنة ، أصحاب النار .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 374 ] واختلفوا على الوقف على هذه اللفظة : هل يوقف عليها بالتاء أو بالهاء ؟

                                                                                                                                                                                                                                      فقال الأخفش والفراء وابن كيسان : "الوقف عليها بالتاء إتباعا لرسم المصحف " . وقال الكسائي والجرمي : "يوقف عليها بالهاء لأنها تاء تأنيث ، كهي في " صاحبه " . وموافقة الرسم أولى ، فإنه قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء ، فإذا وقفنا هنا بالتاء وافقنا تلك اللغة والرسم ، بخلاف عكسه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : لا يضركم قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : " يضركم "بكسر الضاد وجزم الراء على جواب الشرط من ضاره يضيره ، ويقال أيضا : ضاره يضوره ، ففي العين لغتان . ويقال : ضاره يضيره ضيرا فهو ضائر وهو مضير ، وضاره يضوره ضورا فهو ضائر وهو مضور ، نحو : قلته أقوله فأنا قائل وهو مقول .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الباقون : " يضركم "بضم الضاد وتشديد الراء مرفوعة . وفي هذه القراءة أوجه ، أحدها : أن الفعل مرتفع وليس بجواب للشرط ، وإنما هو دال على جواب الشرط ، وذلك أنه على نية التقديم ، إذ التقدير : لا يضركم أن تصبروا وتتقوا فلا يضركم " ، فحذف "فلا يضركم " الذي هو الجواب لدلالة ما تقدم عليه ، ثم أخر ما هو دليل على الجواب ، وهذا الذي ذكرته هو تخريج سيبويه وأتباعه . وإنما احتاجوا إلى ارتكاب هذا الشطط لما رأوا من عدم الجزم في فعل مضارع لا مانع من إعمال الجازم فيه ، ومثل هذا قول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1413 - يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 375 ] برفع "تصرع " الأخير ، وكذلك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1414 - وإن أتاه خليل يوم مسألة     يقول لا غائب مالي ولا حرم



                                                                                                                                                                                                                                      برفع "يقول " إلا أن هذا النوع مطرد بخلاف ما قبله ، أعني كون فعلي الشرط والجزاء مضارعين فإن المنقول عن سيبويه وأتباعه وجوب الجزم إلا في ضرورة كقوله : "إن يصرع أخوك تصرع " ، وتخريجه هذه الآية على ما ذكرته عنه يدل على أن ذلك لا يخص بالضرورة فاعلم ذلك :

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن الفعل ارتفع لوقوعه بعد فاء مقدرة هي وما بعدها الجواب في الحقيقة ، والفعل متى وقع بعد الفاء رفع ليس إلا ، كقوله تعالى : ومن عاد فينتقم الله منه والتقدير : فلا يضركم ، والفاء حذفت في غير محل النزاع كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1415 - من يفعل الحسنات الله يشكرها     والشر بالشر عند الله سيان



                                                                                                                                                                                                                                      أي : فالله يشكرها . وهذا الوجه رأيت بعضهم ينقله عن المبرد ، وفيه نظر ، من حيث إنهم لما أنشدوا البيت المذكور نقلوا عن المبرد أنه لا يجيز حذف هذه الفاء البتة لا ضرورة ولا غيرها ، وينقلون عنه أن كان يقول : "إنما الرواية في هذا البيت :


                                                                                                                                                                                                                                      من يفعل الخير فالرحمن يشكره



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 376 ] وردوا عليه بأنه إذا صحت رواية فلا يقدح فيها غيرها . ورأيت بعضهم ينقله عن الفراء والكسائي ، وهذا أقرب .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث : أن الحركة حركة إتباع ، وذلك أن الأصل : لا يضرركم بالفك لسكون الثاني جزما ، وسيأتي أنه إذا التقى مثلان في آخر فعل سكن ثانيهما جزما أو وقفا فللعرب فيه مذهبان : الإدغام - وهو لغة تميم والفك - وهو لغة الحجاز - ، لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك ، فاضطررنا إلى تحريك المثل الثاني فحركناه بأقرب الحركات إليه وهي الضمة التي على الحرف قبله ، فحركناه بها وأدغمنا ما قبله فيه فهو مجزوم تقديرا ، وهذه الحركة في الحقيقة حركة إتباع لا حركة إعراب بخلافها في الوجهين السابقين قبل هذا فإنها حركة إعراب .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أنه متى أدغم هذا النوع : فإما أن تكون فاؤه مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة ، فإن كانت مضمومة كالآية الكريمة وقولهم " مد "ففيه ثلاثة أوجه حالة الإدغام : الضم للإتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين فتقول : مد ومد ومد ، ورد ورد ورد . وينشدون على ذلك قول جرير :


                                                                                                                                                                                                                                      1416 - فغض الطرف إنك من نمير     فلا كعبا بلغت ولا كلابا



                                                                                                                                                                                                                                      بضم الضاد وفتحها وكسرها على ما ذكرته لك ، وسيأتي أن الآية قرئ فيها بالأوجه الثلاثة . وإن كانت مفتوحة نحو : عض ، أو مكسورة نحو : فر ، كان في اللام وجهان : الفتح والكسر ، إذ لا وجه للضم ، لكن لك في نحو : " فر " [ ص: 377 ] أن تقول الكسر من وجهين : إما الإتباع وإما التقاء الساكنين ، وكذلك لك في الفتح نحو : " عض "وجهان أيضا : إما الإتباع وإما التخفيف ، هذا كله إذا لم يتصل بالفعل ضمير غائب ، فأما إذا اتصل به ضمير غائب نحو : " رده "ففيه تفصيل ولغات يكثر القول فيها ولا يليق التعرض لذلك في هذا النوع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عاصم فيما رواه عنه المفضل بضم الضاد وتشديد الراء مفتوحة على ما ذكرت لك من التخفيف ، وهي عندهم أوجه من ضم الراء . وقرأ الضحاك بن مزاحم : "لا يضركم " بضم الضاد وتشديد الراء مكسورة على ما ذكرته لك من التقاء الساكنين ، وكأن ابن عطية لم يحفظها قراءة فإنه قال : "وأما الكسر فلا أعرفها قراءة " . وعبارة الزجاج في ذلك متجوز فيها إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة . قلت : قد بينت أنها قراءة كما قال الزجاج ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                      والكيد : المكر والاحتيال . وقال الراغب : "وهو نوع من الاحتيال ، وقد يكون ممدوحا ، وقد يكون مذموما ، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر " . قال ابن قتيبة : "وأصله من المشقة من قولهم : " فلان يكيد بنفسه "أي يجوز بها غمرات الموت ومشتقاته " . ويقال : كدت فلانا أكيده كبعته أبيعه . قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1417 - من يكدني بسيئ كنت منه     كالشجا بين حلقه والوريد



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 378 ] وقرأ أبي : "لا يضرركم " بالفك وهي لغة الحجاز ، وعليها قوله تعالى : إن تمسسكم حسنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : "شيئا " منصوب نصب المصادر أي : شيئا من الضرر ، وقد تقدم نظيره ، وقرأ العامة : " بما يعملون محيط " بالغيبة وهي واضحة . وقرأ الحسن بالخطاب : إما على الالتفات وإما على إضمار "قل لهم يا محمد " .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية