الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
84 - باب ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاعه ومنشئه إلى الوقت الذي جاءه الوحي

962 - حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي ، قال : حدثنا أبو علي الحسين بن علي الصدائي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد السلمي ، قال : حدثنا عمر بن صبح التميمي ، عن ثور بن يزيد ، عن مكحول ، عن شداد بن أوس ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا على باب الحجرة ، إذ أقبل شيخ من بني عامر ، وهو مدرة قومه ، وسيدهم من شيخ كبير يتوكأ على عصى ، فتمثل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قائما ، ونسبه إلى جده ، فقال : يا ابن عبد المطلب ، [ ص: 1423 ] إنى نبئت أنك تزعم أنك رسول الله إلى الناس بما أرسل به موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ، ألا وإنك تفوهت بعظيم ، إنما كانت الخلفاء والأنبياء في بيتين من بيوت بني إسرائيل ، فلا أنت من أهل هذا البيت ، ولا من أهل هذا البيت ، إنما أنت رجل من العرب ، ممن كانت تعبد هذه الحجارة والأوثان ، فما لك وللنبوة ؟ ولكن لكل قول حقيقة ، فأنبئني بحقيقة قولك ، وبدء شأنك ، قال : فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بمساءلته ، وقال : "يا أخا بني عامر ، إن للحديث الذي تسأل عنه نبأ ومجلسا ، فاجلس" فثنى رجله ، ثم برك كما يبرك البعير ، واستقبله النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث ، فقال : " يا أخا بني عامر ، إن حقيقة قولي ، وبدء شأني : أني دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى أخي عيسى ابن مريم ، وإن أمي حملتني ، وإني كنت بكر أمي ، حملتني كأثقل ما تحمل النساء ، حتى جعلت تشتكي إلى صواحباتها ثقل ما تجد ، ثم إن أمي رأت في المنام : أن الذي في بطنها نور ، قالت : فجعلت أتبع النور بصري ، فجعل النور يسبق بصري ، حتى أضاءت لي مشارق الأرض ومغاربها ، ثم إنها ولدتني ، فنشأت ، فلما نشأت بغضت إلي أوثان قريش ، وبغض إلي الشعر ، وكنت مسترضعا في بني ليث بن بكر ، فبينا أنا ذات يوم منتبذ من أهلي ، مع [ ص: 1424 ] أتراب لي من الصبيان ، في بطن واد ، نتقاذف بيننا بالجلة ، إذ أقبل إلي رهط ثلاثة ، معهم طست من ذهب ، ملآن ثلجا ، فأخذوني ، فانطلقوا بي من بين أصحابي ، وانطلق أصحابي هرابا ، حتى انتهوا إلى شفير الوادي ، ثم أقبلوا على الرهط ، فقالوا : ما رابكم إلى هذا الغلام ؟ إنه ليس منا ، هذا من سيد قريش ، وهو مسترضع فينا ، من غلام يتيم ، ليس له أب ولا أم ، فماذا يرد عليكم قتله ؟ ! وماذا تصيبون من ذلك ؟ ! إن كنتم لابد قاتليه فاختاروا منا أينا شئتم ، فليأتكم مكانه فاقتلوه ، ودعوا هذا الغلام ، فإنه يتيم ، فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون إليهم جوابا ، انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحي ، يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم ، فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعا لطيفا ، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي ، وأنا أنظر إليه ، فلم أجد لذلك مسا ، ثم أخرج أحشاء بطني فغسلها بذلك الثلج ، فأنعم غسلها ، ثم أعادها مكانه ، ثم قال الثاني منهم لصاحبه : تنح ، فأدخل يده في جوفي ، فأخرج قلبي ، فصدعه ، وأنا أنظر إليه ، فأخرج منه مضغة سوداء ، فألقاها ، ثم قال بيده كأنه يتناول شيئا ، فإذا بيده خاتما من نور ، تحار أبصار الناظرين دونه ، فختم به قلبي ، ثم أعاده إلى مكانه ، فامتلأ قلبي نورا ، فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا .

ثم قال الثالث منهم لصاحبه : تنح ، فتنحى عني ، ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا ، ثم أكبوا علي ، وضموني إلى صدورهم ، وقبلوا رأسي وما بين [ ص: 1425 ] عيني ، ثم قالوا : يا حبيب ، لن ترع ، إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عينك ، ثم قال الأول الذي شق بطني : زنوه بعشرة من أمته ، فوزنوني بهم فرجحتهم ، ثم قال : زنوه بمائة من أمته ، فوزنوني ، فرجحتهم ، ثم قال : زنوه بألف من أمته ، فوزنوني ، فرجحتهم ، فقال : دعوه ، فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم .

فبينا نحن كذلك ، إذ أنا بالحي قد جاؤوا بحذافيرهم ، وإذا أمي - وهي ظئري - أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وهي تقول : يا ضعيفاه ، استضعفت من بين أصحابك ، وقتلت لضعفك ، فأكبوا علي ، وضموني إلى صدورهم ، وقبلوا رأسي ، وما بين عيني ، وقالوا : حبذا أنت من ضعيف ، وما أكرمك على الله ، ثم قالت : يا وحيداه ، فأكبوا علي ، وضموني إلى صدورهم ، وقالوا : حبذا أنت من وحيد ، وما أنت بوحيد ، إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض ، ثم قالت ظئري : يا يتيماه . فأكبوا علي وضموني إلى صدورهم ، وقبلوا رأسي وما بين عيني ، وقالوا : حبذا أنت من يتيم ، ما أكرمك على الله . فلما نظرت أمي - وهي ظئري - قالت : يا بني ألا أراك حيا بعد ، وضمتني إلى حجرها ، فوالذي نفسي بيده إني لفي حجرها قد ضمتني إليها ، وإن يدي لفي يد بعضهم ، وظننت أن القوم يبصرونهم ، فإذا هم لا يبصرونهم ، فقال بعض القوم : قد أصاب هذا الغلام طائف من الجن ، فاذهبوا به إلى كاهن ، حتى ينظر إليه ويداويه [ ص: 1426 ] فقلت : يا هناه ، إنى أجد نفسي سليمة ، وفؤادي صحيحا ، ليس بي قلبة ، فقال أبي : - وهو زوج ظئري - أما ترون كلامه كلام صحيح ، إنى أرجو أن لا يكون على ابني بأس ، فاتفق رأيهم على أن يذهبوا بي إلى الكاهن ، فاحتملوني ، فذهبوا بي إليه ، فقصوا عليه قصتي ، فقال : اسكتوا ، حتى أسأل الغلام ، فإنه أعلم بأمره منكم ، فسألني ، فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها ، فضمني إليه ، وقال : يا للعرب ! ، يا للعرب ! ، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه ، واللات والعزى ، لئن تركتموه وأدرك ، ليخالفن دينكم ، ودين آبائكم ، وليخالفن أمركم ، وليأتينكم بدين لم تروا مثله ، فانتزعتني أمي من حجره ، وقالت : أنت أعته ، وأجن من ابني هذا ، ولو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به ، فاطلب لنفسك من يقتلك ، فإنا غير قاتلي هذا الغلام ، واحتملوني ، وأدوني إلى أهلي ، فأصبحت معزا مما فعل بي ، وأصبح أثر الشق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي ، كأنه الشراك ، فذلك يا أخا بني عامر : حقيقة قولي وبدو شأني .

فقال العامري : أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أن أمرك لحق . . .
وذكر الحديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية