الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
193 - حدثنا أبو عبد الله جعفر بن إدريس القزويني ، قال : حدثنا أحمد بن الممتنع بن عبيد الله القرشي التيمي ، قال : أخبرنا أبو الفضل صالح بن علي بن يعقوب المنصور الهاشمي - وكان من وجوه بني هاشم ، وأهل الجلالة والسبق منهم - قال : حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين ، وقد [ ص: 541 ] جلس ينظر في أمور المسلمين في دار العامة ، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها فيأمر بالتواقيع فيها ، وإنشاء الكتب لأصحابها ، ويختم ويدفع إلى صاحبه بين يديه ، فسرني ذلك وجعلت أنظر إليه ففطن ونظر إلي ، فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مرارا ثلاثا ، إذا نظر إلي غضضت وإذا اشتغل نظرت ، فقال لي : يا صالح ؛ قلت : لبيك يا أمير المؤمنين ، وقمت قائما ، فقال : في نفسك منا شيء تحب أن تقوله ؟ أو قال : تريد أن تقوله ؟ فقلت : نعم يا سيدي يا أمير المؤمنين ، قال لي : عد إلى موضعك ، فعدت وعاد في النظر حتى إذا قام قال للحاجب : لا يبرح صالح ، فانصرف الناس ثم أذن لي وقد أهمتني نفسي ؛ فدخلت ، فدعوت له ، فقال لي : اجلس . فجلست ، فقال : يا صالح ، تقول لي ما دار في نفسك ، وأقول أنا ما دار في نفسي إنه دار في نفسك ؟

قلت : يا أمير المؤمنين ، ما تعزم عليه وما تأمر به . فقال : وأقول : أنا كأني بك وقد استحسنت ما رأيت منا ، فقلت : أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول : القرآن مخلوق !

فورد على قلبي أمر عظيم وأهمتني نفسي ، ثم قلت : يا نفس هل تموتين إلا مرة ؟ ! وهل تموتين قبل أجلك ؟ وهل يجوز الكذب في جد أو هزل ؟

[ ص: 542 ] فقلت : والله يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلت ، ثم أطرق مليا ، ثم قال لي : ويحك ؛ اسمع مني ما أقول ، فوالله لتسمعن مني الحق ، فسري عني ؛ فقلت : يا سيدي ، ومن أولى بقول الحق منك ، وأنت أمير المؤمنين ، وأنت خليفة رب العالمين ، وابن عم سيد المرسلين من الأولين والآخرين ، فقال : ما زلت أقول : القرآن مخلوق صدرا من خلافة الواثق ، حتى أقدم علينا أحمد بن أبي دؤاد شيخا من أهل الشام من أهل أذنة ، فأدخل الشيخ على الواثق مقيدا ، وهو جميل الوجه ، تام القامة ، [ ص: 543 ] حسن الشيبة ، فرأيت الواثق قد استحيى منه ، ورق له ، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه ، فسلم الشيخ فأحسن السلام ، ودعا فأبلغ الدعاء وأوجز ، فقال له الواثق اجلس .

ثم قال له : يا شيخ ، ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه . فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، ابن أبي دؤاد يقل ويضيق ويضعف عن المناظرة ، فغضب الواثق ، وعاد مكان الرأفة له غضبا عليه ، فقال أبو عبد الله : ابن أبي دؤاد يضيق ويقل ويضعف عن مناظرتك أنت ؟ !

فقال الشيخ : هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك ، وائذن لي في مناظرته .

فقال الواثق : ما دعوتك إلا للمناظرة .

فقال الشيخ : يا أحمد بن أبي دؤاد ، إلام دعوت الناس ؟ ودعوتني إليه ؟

قال : إلى أن تقول : القرآن مخلوق ؛ لأن كل شيء دون الله مخلوق .

فقال الشيخ : إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تحفظ علي وعليه ما يقول ؟ قال : أفعل .

قال الشيخ : أخبرني يا أحمد ، عن مقالتك هذه أواجبة داخلة في عقد [ ص: 544 ] الدين ، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت ؟

قال : نعم .

قال الشيخ : يا أحمد ، أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله تعالى إلى عباده ، هل ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أمر الله تعالى به في دينه ؟

قال : لا .

قال الشيخ : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه ؟

فسكت ابن أبي دؤاد .

فقال الشيخ : تكلم . فسكت ، فالتفت الشيخ إلى الواثق فقال : يا أمير المؤمنين ؛ واحدة ؟ فقال الواثق : واحدة .

فقال الشيخ : يا أحمد ، أخبرني عن الله تعالى ، حين أنزل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) كان الله تعالى الصادق في إكمال دينه ، أم أنت الصادق في نقصانه ، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه ؟ !

فسكت ابن أبي دؤاد .

فقال الشيخ : أجب يا أحمد ، فلم يجبه ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين : اثنتان ؟ فقال الواثق : اثنتان .

[ ص: 545 ] فقال الشيخ : يا أحمد ، أخبرني عن مقالتك هذه ؛ أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها ؟

قال ابن أبي دؤاد : علمها .

قال الشيخ : فدعا الناس إليها ؟

فسكت ابن أبي دؤاد .

فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، ثلاث ؟ فقال الواثق : ثلاث .

فقال الشيخ : يا أحمد ، فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ علمها كما زعمت ولم يطالب أمته بها ؟

قال : نعم .

قال الشيخ : واتسع لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ؟ فقال ابن أبي دؤاد : نعم .

فأعرض الشيخ عنه ، وأقبل على الواثق ، فقال : يا أمير المؤمنين قد قدمت القول إن أحمد يضيق ويقل ويضعف عن المناظرة .

يا أمير المؤمنين ، إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم من ذلك .

فقال الواثق : نعم ، إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فلا وسع الله [ ص: 546 ] علينا ، اقطعوا قيد الشيخ .

فلما قطع ضرب الشيخ بيده إلى القيد ليأخذه فجاذبه الحداد عليه ، فقال الواثق : دع الشيخ ليأخذه ، فأخذه الشيخ ، فوضعه في كمه ، فقال الواثق : لم جاذبت عليه ؟ قال الشيخ : لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا مت أن يجعله بيني وبين كفني حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله تعالى يوم القيامة ، فأقول : يا رب ؛ سل عبدك هذا لم قيدني ، وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي . وبكى الشيخ ، فبكى الواثق ، وبكينا ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله .

فقال الشيخ : والله يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كنت رجلا من أهله .

فقال الواثق : لي إليك حاجة . فقال الشيخ : إن كانت ممكنة فعلت .

فقال الواثق : تقيم قبلنا فينتفع بك فتياننا .

فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني [ ص: 547 ] منه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عليك ، وأخبرك بما في ذلك : أصير إلى أهلي وولدي وأكف دعاءهم عليك فقد خلفتهم على ذلك .

فقال الواثق : فتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك .

فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ؛ لا تحل لي ، أنا عنها غني ، وذو مرة سوي .

قال : فسل حاجتك . قال : أو تقضيها يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم . قال : تخلي سبيلي إلى الثغر الساعة ، وتأذن لي . قال : قد أذنت لك ، فسلم عليه الشيخ وخرج .

قال صالح : قال المهتدي بالله رحمة الله عليه : فرجعت عن هذه المقالة من ذلك اليوم ، وأظن الواثق بالله كان رجع عنها من ذلك الوقت .

التالي السابق


الخدمات العلمية