الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر ما قيل في اسوداد الحجر بعد بياضه

                                                                                                                                                                                                                              قال السهيلي- رحمه الله تعالى- بعد أن ذكر شيئا يتعلق بالحجر الأسود: وانتبه من ها هنا إلى الحكمة في أنه سودته خطايا بني آدم دون غيره من أحجار الكعبة وأستارها وذلك أن العهد الذي فيه هو الفطرة التي فطر الناس عليها من توحيد الله تعالى، فكل مولود يولد على تلك الفطرة وعلى ذلك الميثاق، فلولا أن أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه حتى يسود قلبه بالشرك لما حال عن العهد، فلما صار قلب ابن آدم محلا لذلك العهد والميثاق وصار الحجر محلا لما كتب فيه من ذلك العهد والميثاق فتناسبا، فاسود من الخطايا قلب ابن آدم بعد ما كان ولد عليه من ذلك العهد، واسود الحجر الأسود بعد ابيضاضه، وكانت الخطايا سببا في ذلك حكمة من الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الشيخ عن جعفر بن محمد رحمه الله تعالى قال: كنت مع أبي محمد بن علي، فقال له رجل: يا أبا جعفر ما بدء خلق هذا الركن؟ فقال: إن الله- تعالى- لما خلق الخلق قال لبني آدم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فأقروا فأجرى نهرا أحلى من العسل وألين من الزبد، ثم أمر القلم فاستمد من ذلك النهر، فكتب إقرارهم وما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم ألقم ذلك الكتاب هذا القلم الحجر، فهذا الاستلام الذي يرى إنما هو تبعية على إقرارهم الذي كانوا أقروا به.

                                                                                                                                                                                                                              وروى عبد الرزاق في المصنف وأبو الشيخ عن فاطمة بنت حسن- رضي الله تعالى عنها- قالت: لما أخذ الله الميثاق من بني آدم جعله الله- تعالى- في الركن، فمن الوفاء بعهد الله تعالى استلام الحجر.

                                                                                                                                                                                                                              وروى الجندي في فضائل مكة وأبو الحسن القطان في المطولات والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال: حججنا مع عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- فلما دخل في الطواف استقبل الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ثم قبله ، فقال له علي [ ص: 177 ] - رضي الله تعالى عنه-: إنه يضر وينفع يا أمير المؤمنين. قال: بم؟ قال: بكتاب الله تعالى. قال وأين ذلك من كتاب الله قال: قال الله عز وجل: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم إلى قوله: بلى ، خلق آدم ومسح على ظهره فقررهم بأنه الرب وأنهم العبيد، وأخذ عهودهم ومواثيقهم وكتب ذلك في رق، وكان لهذا الحجر عينان ولسان، فقال له: افتح فاك، ففتح فاه فألقمه ذلك الرق وقال: اشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة، وإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالحجر الأسود يوم القيامة وله لسان ذلق يشهد لمن يستلمه بالتوحيد» فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع. فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.

                                                                                                                                                                                                                              تنبيه: قال المحب الطبري رحمه الله تعالى: وقد اعترض بعض الملحدة، فقال: كيف يسود الحجر خطايا أهل الشرك ولا يبيضه توحيد أهل الإيمان؟.

                                                                                                                                                                                                                              والجواب عنه من ثلاثة أوجه: الأول: ما تضمنه حديث ابن عباس الذي رواه الجندي:

                                                                                                                                                                                                                              أن الله- تعالى- إنما طمس نوره بالسواد ليستر زينة الجنة عن الظلمة وكأنه لما تغيرت صفته التي كانت كالزينة له بالسواد كان ذلك السواد له كالحجاب المانع من الرؤية وإن رئي جرمه، إذ يجوز أن يطلق عليه غير مرئي، كما يطلق على المرأة المستترة بثوب أنها غير مرئية.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: أجاب به ابن حبيب رحمه الله- تعالى- فقال: لو شاء الله- تعالى- لكان ذلك، وما علمت أيها المعترض أن الله- تعالى- أجرى العادة بأن السواد يصبغ ولا يصبغ، والبياض ينصبغ ولا يصبغ.

                                                                                                                                                                                                                              والثالث: وهو منقاس، أن يقال: بقاؤه أسود- والله تعالى أعلم-: إنما كان للاعتبار، وليعلم أن الخطايا إذا أثرت في الحجر فتأثيرها في القلوب أعظم. والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية