الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ابن إسماعيل

                                                                                                                                                                                                                              إسماعيل باللام وفيه لغة أخرى وهو إسماعين بالنون. حكاه الإمام النووي رحمه الله تعالى في تهذيبه.

                                                                                                                                                                                                                              وهو نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى أخواله من جرهم وإلى العماليق الذين كانوا بأرض الحجاز فآمن بعض وكفر بعض.

                                                                                                                                                                                                                              وهو اسم أعجمي كسائر الأعلام الأعجمية. قال السهيلي رحمه الله تعالى: وتفسيره مطيع الله. قال صاحب القاموس في كتاب لغات القرآن المسمى بمطلع زواهر النجوم: وهو أول من سمي بهذا الاسم من بني آدم ، واحترزنا بهذا القيد عن الملائكة فإن فيهم إسماعيل وهو أمير الملائكة. قلت: أي ملائكة سماء الدنيا. كما سيأتي في باب سياق قصة المعراج.

                                                                                                                                                                                                                              وتكلف بعض الناس له اشتقاقا من سمع وتركيبا منه ومن إيل وهو اسم الله تعالى قال: فإن وزنه إفعاليل فمعناه اسم الله تعالى أمره فقام به. والذي قال: إن وزنه فعاليل لأن أصله سماعيل قال لأنه سمع من الله تعالى قوله فأطاعه.

                                                                                                                                                                                                                              قال في المطلع وله عشر خصائص: الأولى أن لغته كانت لغة العرب قلت: هو أول من نطق بالعربية المبينة.

                                                                                                                                                                                                                              روى الزبير بن بكار وأبو جعفر النحاس في أدب الكاتب عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة".

                                                                                                                                                                                                                              إسناده حسن كما في الفتح والزهر.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حديث بدء أمر زمزم ونزول جرهم بأم إسماعيل : وشب الغلام وتعلم العربية منهم إلخ.

                                                                                                                                                                                                                              وقد تقدم بتمامه.

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : فيه إشعار بأن لسان أمه وأبيه لم يكن عربيا، وفيه تضعيف لقول من روى أنه أول من تكلم بالعربية. وقد وقع ذلك في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند الحاكم في المستدرك بلفظ: "أول من نطق بالعربية إسماعيل" ثم أورد الحافظ حديث علي السابق. ثم قال: وبهذا القيد - يعني إنه أول من تكلم بالعربية المبينة يجمع بين الخبرين فتكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان لا الأولية المطلقة. ويكون بعد تعلمه أصل [ ص: 302 ] بالعربية من جرهم ألهمه الله تعالى العرب ية الفصيحة البينة فنطق بها.

                                                                                                                                                                                                                              ويشهد لهذا الجمع ما حكى ابن هشام رحمه الله تعالى عن الشرفي بن قطامي أن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم. ويحتمل أن تكون الأولية في الحديث مقيدة بإسماعيل بالنسبة إلى بقية إخوته من ولد إبراهيم . فإسماعيل أول من نطق بالعربية من ولد إبراهيم . ولهذا تتمة تأتي في اسم " العربي".

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: أنه مركز نور النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: أنه ولد الخليل صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: أنه شريك أبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم في بناء البيت.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: أنه كان بكر الخليل صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة: أن إليه ترجع أنساب العرب .

                                                                                                                                                                                                                              السابعة: أنه استسلم للذبح عند امتحان الله تعالى إياه.

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة: أنه فاز بخلعة: وفديناه بذبح عظيم .

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة: أن الله تعالى اصطفاه من ولد آدم .

                                                                                                                                                                                                                              روى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل " الحديث وتقدم بتمامه.

                                                                                                                                                                                                                              العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتخر به فقال: "أنا ابن الذبيحين".

                                                                                                                                                                                                                              قلت هو بهذا اللفظ في الكشاف وقال الزيلعي والحافظ كلاهما في تخريج أحاديثه: إنهما لم يجداه بهذا اللفظ.

                                                                                                                                                                                                                              وسماه الله تعالى في القرآن باثني عشر اسما: غلام، وعليم، وحليم، ومسلم ، ومستسلم، وآمر وكان يأمر أهله بالصلاة وصابر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ومرضي وكان عند ربه مرضيا وصادق ورسول ونبي ومذكور واذكر في الكتاب إسماعيل [ ص: 303 ] وكان أكبر من إسحاق صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في الذبيح منهما. والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه إسماعيل صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وقد بسط العلامة ابن القيم في كتابه "زاد المعاد" توجيه ذلك ورد خلافه بأكثر من عشرين وجها.

                                                                                                                                                                                                                              ولم يخرج من نسله نبي غير نبينا صلى الله عليه وسلم وأما خالد بن سنان فإن كان في زمن الفترة فقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم إنه ليس بيني وبينه نبي" انتهى. وإن كان قبلها فلا يمكن أن يكون نبيا لأن الله تعالى قال: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك وقد قال غير واحد من العلماء، لم يبعث الله نبيا بعد إسماعيل في العرب إلا محمدا صلى الله عليه وسلم: ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله تعالى وقال الحافظ في الفتح: إن هذا الحديث أي الذي في الصحيح يضعف ما ورد في قصة خالد بن سنان، فإنه صحيح بلا تردد، وفي غيره مقال. أو المراد: إنه لم يبعث بشريعة مستقلة، وإنما بعث بتقرير شريعة عيسى .

                                                                                                                                                                                                                              وأم إسماعيل : هاجر بالهاء ويقال آجر وهي قبطية.

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن إبراهيم وسارة قدما أرض جبار أو ملك فقال إبراهيم لسارة: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي وإنك أختي في الإسلام. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فقال: لقد قدم أرضك امرأة جميلة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك وهي من أحسن الناس، فأرسل إلى إبراهيم فسأله عنها فقال: من هذه؟ قال: أختي ثم رجع إليها فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني فأرسل إليها وقام إبراهيم إلى الصلاة فلما دخلت عليه قامت تتوضأ وتصلي فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي هذا الكافر فلم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة وغط حتى ركض برجله فقالت: إن يمت يقال هي قتلته فأرسل وفي لفظ فقال: ادعي الله لي ولا أضرك. فدعت فأطلق. ثم تناولها الثانية فقامت تتوضأ وتصلي وتقول: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي هذا الكافر فأخذ مثلها أو أشد وغط حتى ضرب برجله الأرض فقالت اللهم إن يمت يقال هي قتلته فأرسل وفي لفظ: فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأطلق فدعا بعض حجبته وفي لفظ: الذي جاء [ ص: 304 ] بها فقال لم تأتوني بإنسان إنما أتيتموني بشيطان ارجعوها إلى إبراهيم وأخرجها من أرضي وأعطها هاجر فرجعت إلى إبراهيم وهو قائم يصلي فأومأ بيده: مهيم. وفي لفظ مهيا. قالت أشعرت أن الله كبت الكافر؟ وفي لفظ: قالت: إن الله رد كيد الكافر في نحره وأخدم هاجر.

                                                                                                                                                                                                                              رواه البخاري في مواضع صحيحة ومسلم والنسائي والبزار وابن حبان رحمهم الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام النووي : كانت هاجر للجبار الذي كان يسكن عين الجر. قلت: قال الحازمي: هو بالجيم المفتوحة والراء المشددة انتهى. بقرب بعلبك. فوهبها لسارة، فوهبتها سارة لإبراهيم . قال السهيلي : وكانت قبل ذلك الملك الذي وهبها لسارة بنت ملك من ملوك القبط بمصر. ذكر الطبري من حديث سيف بن عمير أو غيره إن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه حين حاصر مصر قال لأهلها: إن نبينا قد وعدنا بفتحها وقد أمرنا أن نستوصي بأهلها خيرا فإن لهم نسبا وصهرا فقالوا: هذا نسب لا يحفظ حقه إلا نبي لأنه نسب بعيد، وصدق كانت أمكم امرأة الملك من ملوكنا فحاربنا أهلعين شمس وكانت علينا دولة فقتلوا الملك واحتملوها فمن هناك سيرت إلى أبيكم إبراهيم أو كما قالوا.

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ رحمه الله تعالى: هاجر اسم سرياني ويقال إن أباها كان من ملوك القبط، وأنها من حفن بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء آخره نون: قرية بمصر. قال اليعقوبي رحمه الله تعالى: كانت مدينة انتهى. وهي الآن كفر من عمل أنصنا بالبر الشرقي من الصعيد في مقابلة الأشمونين. وفيها آثار عظيمة باقية واسم الجبار المذكور عمرو بن امرئ القيس ابن سبأ وكان على مصر. ذكره السهيلي وهو قول ابن هشام في التيجان وقيل اسمه صادوف ذكره ابن قتيبة. وإنه كان على الأردن. وذكر ابن هشام في التيجان قائل ذلك رجل كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم يشتري منه القمح وأنه ذكر أنه رآها تطحن وأن هذا هو السر في إعطاء الملك لها هاجر وقال: إن هذه لا تصلح أن تخدم نفسها.

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في السبب الذي حمل إبراهيم صلى الله عليه وسلم على التوصية بأنها أخته، مع أن ذلك الظالم يريد اغتصابها على نفسها أختا كانت أو زوجة. [ ص: 305 ] فقيل: كان من دين ذلك الملك أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج. كذا قيل. قال الحافظ : ويحتاج إلى تتمة: وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أراد دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما.

                                                                                                                                                                                                                              وذلك أن اغتصاب الملك إياها واقع لا محالة لكن إن علم أن لها زوجا في الحياة حملته الغيرة على قتله وإعدامه وحبسه وإضراره بخلاف ما إذا علم أن لها أخا فإن الغيرة حينئذ تكون من قبل الأخ خاصة لا من قبل الملك فلا يبالي به وقيل أراد إن علم أنك زوجتي ألزمني بالطلاق. والتقرير الذي قررته جاء صريحا عن وهب بن منبه. رواه عبد بن حميد في تفسيره.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الحافظ زكي الدين المنذري رحمه الله تعالى في حاشية السنن عن بعض أهل الكتاب أنه كان من رأي الجبار المذكور أن من كانت متزوجة لا يقربها حتى يقتل زوجها فلذلك قال إبراهيم هي أختي لأنه إن كان عادلا خطبها منه ثم يرجو مدافعته عنها، وإن كان ظالما خلص من القتل وليس ببعيد مما قررته أولا. وذكر ابن الجوزي نحو ما ذكره المنذري.

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية