الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولا تقتل المرتدة ، ولكنها تحبس ، وتجبر على الإسلام عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى تقتل إن لم تسلم ، وهكذا كان يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى في الابتداء ثم رجع أنه الحسن ، عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنها تخرج في كل قليل ، وتعذر تسعة وثلاثين سوطا ثم تعاد إلى الحبس إلى أن تتوب أو تموت ، واستدل الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم { من بدل دينه فاقتلوه } ، وهذه الكلمة تعم الرجال والنساء كقوله تعالى [ ص: 109 ] { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ، وتبين أن الموجب للقتل تبديل الدين ; لأن مثل هذا في لسان صاحب الشرع لبيان العلة ، وقد تحقق تبديل الدين منها ، وفي الحديث { أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مرتدة يقال لها أم مروان } ، وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قتل مرتدة يقال لها أم فرقة ، ولأنها اعتقدت دينا باطلا بعد ما اعترفت ببطلانه فتقتل كالرجل ، وهذا لأن القتل جزاء على الردة ; لأن الرجوع عن الإقرار بالحق من أعظم الجرائم ، ولهذا كان قتل المرتد من خالص حق الله تعالى ، وما يكون من خالص حق الله فهو جزاء ، وفي أجزية الجرائم الرجال والنساء سواء كحد الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وبهذا تبين أن الجناية بالردة أغلظ من الجناية بالكفر الأصلي ، فإن الإنكار بعد الإقرار أغلظ من الإصرار في الابتداء على الإنكار كما في سائر الحقوق ، وبأن كانت لا تقتل إذا لم تتغلظ جنايتها فذلك لا يدل على أنها لا تقتل إذا تغلظت جنايتها ثم في الكفر الأصلي إذا تغلظت جنايتها بأن كانت مقاتلة أو ساحرة أو ملكة تحرض على القتال تقتل فكذلك بعد الردة ، والدليل عليه أنها تحبس ، وتعزر ، وتجبر على الإسلام بعد الردة ، ولا يفعل ذلك بها في الكفر الأصلي ، وكذلك الشيوخ ، وأصحاب الصوامع ، والرهبان يقتلون بعد الردة ، ولا يقتلون في الكفر الأصلي ، وذوو الأعذار كالأعمى والزمن كذلك ، وكذلك الرق في الكفر الأصلي يمنع القتل ، وهو ما إذا استرق الأسير ، وفي الردة لا يمنع ثم في الكفر الأصلي لا تسلم لها نفسها حتى تسترق لينتفع المسلمون بها فكذلك بعد الردة ، وبالاتفاق لا تسترق في دار الإسلام فقلنا أنها تقتل .

( وحجتنا ) في ذلك { نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء } ، وفيه حديثان أحدهما ما رواه رباح بن ربيعة رضي الله تعالى عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بعض الغزوات قوما مجتمعين على شيء فسأل عن ذلك فقالوا ينظرون إلى امرأة مقتولة فقال لواحد : أدرك خالدا وقل له : لا يقتلن عسيفا ولا ذرية } ، والثاني حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة فقال من قتل هذه قال رجل أنا يا رسول الله أردفتها خلفي فأهوت إلى سيفي لتقتلني فقتلتها ، فقال : ما شأن قتل النساء وارها ولا تعد } { ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة امرأة مقتولة فقال : ها ما كانت هذه تقاتل } ففي هذا بيان أن استحقاق القتل بعلة القتال ، وأن النساء لا يقتلن ; لأنهن لا يقاتلن ، وفي هذا لا فرق بين الكفر الأصلي ، وبين الكفر الطارئ ، وما روي من الحديث غير مجرى [ ص: 110 ] على ظاهره ، فالتبديل يتحقق من الكافر إذا أسلم فعرفنا أنه عام لحقه خصوص فنخصه ونحمله على الرجال بدليل ما ذكرنا ، والمرتدة التي قتلت كانت مقاتلة ، فإن أم مروان كانت تقاتل وتحرض على القتال ، وكانت مطاعة فيهم ، وأم فرقة كان لها ثلاثون ابنا ، وكانت تحرضهم على قتال المسلمين ، ففي قتلها كسر شوكتهم ، ويحتمل أنه كان ذلك من الصديق رضي الله عنه بطريق المصلحة والسياسة كما أمر بقطع يد النساء اللاتي ضربن الدف لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإظهار الشماتة ، والمعنى فيه أنها كافرة فلا تقتل كالأصلية ، وهذا لأن القتل ليس بجزاء على الردة بل هو مستحق باعتبار الإصرار على الكفر .

ألا ترى أنه لو أسلم يسقط لانعدام الإصرار ، وما يكون مستحقا جزاء لا يسقط بالتوبة كالحدود ، فإنه بعد ما ظهر سببها عند الإمام لا تسقط بالتوبة ، وحد قطاع الطريق لا يسقط بالتوبة بل توبته برد المال قبل أن يقدر عليه ، فلا يظهر السبب عند الإمام بعد ذلك يقرره أن تبديل الدين ، وأصل الكفر من أعظم الجنايات ، ولكنها بين العبد وبين ربه فالجزاء عليها مؤخر إلى دار الجزاء ، وما عجل في الدنيا سياسات مشروعة لمصالح تعود إلى العباد كالقصاص لصيانة النفوس ، وحد الزنا لصيانة الأنساب والفرش ، وحد السرقة لصيانة الأموال ، وحد القذف لصيانة الأعراض ، وحد الخمر لصيانة العقول ، وبالإصرار على الكفر يكون محاربا للمسلمين فيقتل لدفع المحاربة إلا أن الله تعالى نص على العلة في بعض المواضع بقوله تعالى { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ، وعلى السبب الداعي إلى العلة في بعض المواضع وهو الشرك ، فإذا ثبت أن القتل باعتبار المحاربة ، وليس للمرأة بنية صالحة للمحاربة فلا تقتل في الكفر الأصلي ، ولا في الكفر الطارئ ، ولكنها تحبس فالحبس مشروع في حقها في الكفر الأصلي ، فإنها تسترق ، والاسترقاق حبس نفسها عنها ، ثم الحبس مشروع في حق كل من رجع عما أقر به كما في سائر الحقوق ، وليس ذلك باعتبار الكفر ، ولا باعتبار المحاربة ، وما يدعى من تغليظ الجناية لا يقوى ، فالرجوع عن الإقرار ، والإصرار على الإنكار بعد قيام الحجة في الجناية سواء مع أن الجناية في الإصرار أغلظ من وجه ; لأنه بعد الردة لا يقر على ما اعتقده ، والشيء قبل تقرره يكون أضعف منه بعد تقرره .

ولو سلمنا تغلظ الجناية ، فإنما يعتبر بمن يغلظ جنايتها في الكفر الأصلي المشركة العربية ، فكما لا تقتل تلك فكذلك لا تقتل هذه ، وإذا كانت مقاتلة أو ملكة أو ساحرة فقتلها الدفع ، وبدون القتل ههنا يحصل المقصود إذا حبست وأجبرت كما بينا على الإسلام ، وأما الرق لا يمنع القتل في [ ص: 111 ] الكفر الأصلي ، فإنه تقتل عبيدهم كأحرارهم ، وإنما الاسترقاق بمنزلة إعطاء الأمان ، وبعقد الذمة ينتهي القتال في حق من يجوز أخذ الجزية منه لا في حق من لا يجوز أخذ الجزية منه كما في مشركي العرب ، والمرتدون لا تؤخذ منهم الجزية فلهذا لا ينتهي القتال في حقهم بعقد الذمة ، والشيخ إذا كان له رأي يقتل في الكفر الأصلي ، والردة لا تتصور إلا ممن له رأي ، والترهب لا يتحقق بعد الإسلام ; لأن القيام بنصرة دين الحق واجب على كل مسلم قال صلى الله عليه وسلم : { لا رهبانية في الإسلام } وبدون تحقق السبب لا يثبت الحكم ، واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى في ذوي الأعذار من مشركي العرب فمنهم من يقول : يقتلون في الكفر الأصلي ; لأن حلول الآفة كعقد الذمة ، فإنه ينعدم به القتال ، فمن لا يسقط القتال عنه بعقد الذمة في الكفر الأصلي فكذلك بحلول الآفة ، فعلى هذا القول ذوو الأعذار من المرتدين يقتلون ، وقيل حلول الآفة بمنزلة الأنوثة ; لأنه تخرج به نيته من أن تكون صالحة للقتال ، فعلى هذا القول لا يقتلون بعد الردة كما لا يقتلون في الكفر الأصلي .

التالي السابق


الخدمات العلمية