الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولا تقسم الغنيمة في دار الحرب حتى يخرجوها إلى دار الإسلام ويحرزوها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى : لا بأس بقسمتها في دار الحرب بعد ما تم انهزام المشركين وهو بناء على أن الملك عنده يثبت بنفس الإصابة لأنه مال مباح فيملك بنفس الأخذ ويجوز قسمته في ذلك الموضع كالصيد وهذا لأن سبب الملك الأخذ وذلك محسوس يتم بنفسه وقيام منازعة المشركين لكون الغزاة في دارهم لا يمنع تقرر ملكهم لقيام منازعتهم في ثياب الغزاة ودوابهم فإنهم لو تمكنوا من الكر عليهم أخذوا جميع ذلك وهذا لأن توهم الكرة عليهم سبب يعارض الاستيلاء بالنقض والأمن عما ينقض سبب الملك ليس بشرط لوقوع الملك كالملك بالبيع والهبة .

ألا ترى أنه لو كان القتال في دار الإسلام أو صير الإمام البقعة دار إسلام يجوز له أن يقسم فيها وهذا التوهم باق ولأنهم إن كروا [ ص: 33 ] فالمسلمون واثقون بجميل وعد الله تعالى في نصرة أوليائه ينصرهم في المرة الثانية كما نصرهم في المرة الأولى فأما عندنا الحق يثبت بنفس الأخذ ويتأكد الإحراز ويتمكن بالقسمة كحق الشفيع يثبت بالبيع ويتأكد بالطلب ويتم الملك بالأخذ وما دام الحق ضعيفا لا تجوز القسمة لأنه دون الملك الضعيف في المبيع قبل القبض وبيان هذا الأصل أن السبب لا يتم قبل الإحراز لأن السبب هو القهر وقبل الإحراز هم قاهرون يدا مقهورون دارا والثابت من وجه دون وجه يكون ضعيفا وهذا لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والشوكة ولما بقيت هذه البقعة منسوبة إليهم عرفنا أن القوة فيها لهم والدليل عليه أنه يحل للإمام أن يرجع إلى دار الإسلام ويترك هذه البقعة في أيديهم وإنما حل ذلك لعجزه عن المقام في هذا الموضع فعرفنا أنا نحسن العبارة في قولنا إنه هزم المشركين وفي الحقيقة هو المنهزم منهم حين ترك هذا الموضع في أيديهم والدليل عليه أن بالأخذ يملك الأراضي كما يملك الأموال ثم لا يتأكد الحق في الأرض التي نزلوا فيها إذا لم يصيرها دار الإسلام فكذلك في الأموال والقصد إلى التملك وجد في الكل فإنه ما دخل دار الحرب إلا قاصدا لملك الأراضي والأموال عليهم بحسب الإمكان ولسنا نسلم أن سبب الملك نفس الأخذ بل هو قهر يحصل به إعلاء كلمة الله تعالى ولهذا كان المصاب غنيمة يخمس وهذا القهر لا يتم بنفس الأخذ ولا بقهر الملاك بل بقهر جميع أهل دار الحرب وذلك بالإحراز ليكون حينئذ جميع دارهم مقابلا بجميع دارنا فأما قبل الإحراز يقابل جميع دارهم بالجيش وليس بهم قوة المقاومة مع جميع أهل الحرب وبه فارق المراغم إذا أحرز نفسه بمنعة أهل الجيش فإنه يعتق لأن حاجته إلى قهر مولاه فقط وذلك يتم بالجيش ألا ترى أنه لا يجب الخمس في رقبته .

وإذا كان القتال في دار الإسلام فبنفس الأخذ يصير المال محرزا بالدار فيتم القهر وإذا صير البقعة دار إسلام فقد تم الإحراز بالدار .

ألا ترى أنه وإن لم يؤخذ المال يتأكد حقهم فيها وأن الحق يتأكد في الأراضي أيضا وبه فارق الصيد فسبب الملك هناك الأخذ وهو القهر على الممتنع في نفسه وهنا الامتناع في المال بل فيمن يقاتل دونه وذلك جميع أهل الحرب ولا يتم قهر جميعهم إلا بالإحراز حكما نقول : فإن قسمها جاز لأنه أمضى فصلا مجتهدا فيه وقضاء المجتهد في المجتهدات نافذ وبيان هذا الاختلاف في سبب القسمة وهو الملك أنه هل يتم بنفس الأخذ أم لا فإذا نفذ باجتهاده كان صحيحا كما إذا قضى بشهادة الأعمى أو المحدود في قذف [ ص: 34 ] وقيل : من مذهبنا كراهة القسمة في دار الحرب لا بطلان القسمة لما في القسمة من قطع شركة المدد فتقل به رغبتهم في اللحوق بالجيش ولأنه إذا قسم تفرقوا فربما يكثر العدو على بعضهم وهذا أمر وراء ما يتم به القسمة فلا يمتنع جوازها وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال إذا لم يجد الإمام حمولة لها يحمله عليها فليقسمها في دار الحرب هكذا ذكر في بعض روايات هذا الكتاب ووجهه أن هذه حالة ضرورة لأنه لو لم يقسمها يحتاج إلى تركها فيبطل حق الغانمين فيها فكان تقرير حقهم بالقسمة أنفع وإن كان فيه قطع شركة المدد وكما لا يقسمها لا يبيعها في دار الحرب لأن البيع ينبني على تأكد الحق بالإحراز ولأن البيع تصرف كالقسمة .

ألا ترى أن في البيع قبل القبض يسوي بين البيع والقسمة وإذا كان في الغنيمة طعام أو علف فاحتاج إليه رجل تناول بقدر حاجته .

وقوله فاحتاج مذكور على وجه العادة دون الشرط فللمحتاج وغير المحتاج أن يتناول من ذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن المسلمين أصابوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو طعاما وعسلا فلم يخمس ذلك وكان الرجل منهم يصيب من ذلك بقدر حاجته وأن المسلمين لما ظهروا على كسرى ظفروا بمطبخه وكان قد أركت القدور وظن بعض الأعراب أن ذلك طيب فهموا أن يصبغوا به لحاهم فقيل : إنه مأكول فوقعوا في ذلك حتى اتخموا وأن غلاما لسلمان رضي الله عنه أتاه بسلة يوم القادسية فقال : افتحها فإن كان فيها طعام أصبنا منه وإن كان فيها مال رددناه على هؤلاء فإذا فيها خبز وجبن وسكين فجعل يأكل من ذلك ويقطع لأصحابه من الجبن ويصف لهم كيف يتخذ الجبن فدل أنه كان معروفا بينهم الرخصة في الطعام والعلف نظير الطعام لأنه محتاج إليه لظهره كما يحتاج إلى القوت لنفسه وهذا لأنهم لا يمكنهم أن يستصحبوا من الطعام والعلف مقدار حاجتهم للذهاب والرجوع ولا يجدون في دار الحرب من يشترون منه وما يأخذون يكون غنيمة فللعلم بوقوع الحاجة إليه يصير مستثنى من شركة الغنيمة ويبقى على أصل الإباحة ولهذا حل للمحتاج وغير المحتاج ما لم يخرجوا إلى دار الإسلام فإذا خرجوا فقد ارتفعت الضرورة لأنهم يجدون في دار الإسلام الطعام والعلف بالشراء فيثبت حكم الغنيمة فيما كان باقيا منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية