الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6004 6005 ص: فإن قال قائل: قد يجوز أن يكون هذا الجار شريكا، فإنه قد يقال للشريك: جار.

                                                قيل له: ما في الحديث ما قد يدل على شيء مما ذكرت، ولكنه قد روي عن أبي رافع ما قد دل على أن ذلك الجار هو الذي لا شركة له.

                                                حدثنا أحمد بن داود ، قال: ثنا يعقوب بن حميد ، قال: ثنا سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن عمرو بن الشريد ، قال: "أتاني المسور بن مخرمة ، فوضع يده على أحد منكبي، فقال: انطلق بنا إلى سعد، . فأتينا سعد بن أبي وقاص في داره، فجاء أبو رافع فقال للمسور: : ألا تأمر هذا -يعني سعدا- أن يشتري مني بيتين في داري. فقال سعد: : والله لا أزيدك على أربعمائة دينار مقطعة أو منجمة، . فقال: سبحان الله لقد أعطيت به خمسمائة دينار نقدا، ولولا أني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الجار أحق بسقبه" ما بعتك.

                                                [ ص: 202 ] فدل ما ذكرنا أن ذلك الجار الذي عناه رسول الله -عليه السلام- هو الجار الذي تعرفه العامة، ومن أعطاك أن الشريك يقال له: جار؟ وأين وجدت هذا في لغات العرب؟ فإن قال: لأني قد رأيت المرأة تسمى جارة زوجها.

                                                قيل له: صدقت، قد سميت المرأة جارة زوجها، ليس لأن لحمها مخالط للحمه، ولا دمها مخالط لدمه، ولكن لقربها منه، فكذلك الجار سمي جارا لقربه من جاره، لا لمخالطته إياه فيما جاوره به.

                                                وأنت فقد زعمت أن الآثار على ظاهرها، فكيف تركت الظاهر في هذا ومعه الدليل، وتعلقت بغيره مما لا دلالة معه؟!

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا القائل هو الشافعي، فإنه أول الجار في الأحاديث المتقدمة بالشريك، وقال: قد يقال للشريك جار، ونفى الطحاوي هذا الإطلاق; حيث قال: قيل له -أي لهذا القائل: ما في الحديث ما قد يدل على شيء مما ذكرت- أي مما ذكرت من أن المراد من الجار الشريك.

                                                ثم أخرج حديث أبي رافع - لكونه دالا على أن ذلك الجار الذي ذكره رسول الله -عليه السلام- في الأحاديث المتقدمة هو الذي لا شركة له- عن أحمد بن داود المكي ، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة الطائفي، وثقه يحيى وغيره وروى له الشيخان، عن عمرو بن الشريد بن سويد الثقفي الطائفي، قال العجلي: حجازي تابعي ثقة. روى له الجماعة الترمذي في "الشمائل" قال: "أتاني المسور -بكسر الميم- بن مخرمة -بفتح الميم- بن نوفل، له ولأبيه صحبة.

                                                وأبو رافع القبطي مولى النبي -عليه السلام- يقال: اسمه إبراهيم، ويقال: أسلم، ويقال: ثابت، ويقال: هرمز.

                                                [ ص: 203 ] والحديث أخرجه البخاري: عن مكي ، عن ابن جريج ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن عمرو بن الشريد: "أنه وقف على سعد، فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على منكبي، إذ جاء أبو رافع مولى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، قال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الجار أحق بصقبه" ما أعطيتكها بأربعة آلاف وأنا أعطى بها خمسمائة دينار، فأعطاها إياه".

                                                ومنهم من قال: "بيتا" وفي رواية مختصرا: "الجار أحق بصقبه".

                                                وأخرجه أبو داود والنسائي أيضا .

                                                قوله: "ألا تأمر" كلمة "ألا" للتحضيض، كأنه يحرض المخاطب بالفعل الذي يأمره به.

                                                قوله: "مقطعة أو منجمة" أراد بالمقطعة المؤداة في دفعات، وهي والمنجمة سواء; لأن تنجيم الدين هو أن يقرر عطاءه في أوقات معدودة.

                                                قوله: "بسقبه" السقب -بالسين المهملة- في الأصل القرب، يقال: سقب الدار وأسقبت أي قربت، ويقال بالصاد أيضا، قال ابن الأثير: الصقب: القرب والملاصقة. وقال الجوهري: صقبت داره -بالكسر- أي قربت، وفي الحديث: "الجار أحق بصقبه" ويقال: أصقبه فصقب، أي قربه فقرب، وقال في فصل السين: السقب: القرب، وقد سقبت -بالكسر- داره أي قربت، وأسقبتها أي قربتها.

                                                ومعنى قوله: "الجار أحق بسقبه" أي بسبب قربه، يعني أن الجار أحق بالشفعة من الذي ليس بجار، وتأويل الشافعي الجار بالشريك بعيد كما ذكرنا، وكذا [ ص: 204 ] تأويله السقب بالبر والمعونة يعني أنه أحق بالبر والمعونة بسبب قربه من جاره، فهذا كله خلاف الأصل.

                                                قوله: "أن ذلك الجار الذي عناه" أي قصده رسول الله -عليه السلام- هو الجار الذي يعرفه العامة.

                                                فإن قيل: إذا كان المراد من الجار هو الذي تعرفه العامة، فما وجه التخصيص بالجار الملازق، والجار أعم من الملازق وغيره، ولهذا رأى بعضهم الشفعة لكل جار، سواء كان ملازقا أو لم يكن، حتى إن بعضهم ذهبوا إلى أن الجار الذي تجب له الشفعة أربعون دارا حول الدار، روي ذلك عن الحسن البصري، وقد ذكرنا الخلاف فيه مستوفى.

                                                قلت: لأن الحكمة فيها دفع ضرر الدخيل، ولا يوجد ذلك إلا في الجار الملازق، إلا أن الشريك في نفس المبيع أو حقه إنما يقدم على الجار; لأن ضرر الدخيل يكون فيه أشد أو أكثر، بخلاف الجار غير الملازق فإنه وسائر الناس سواء، وعن هذا قال أبو يوسف: إذا كان خليط بين داري رجلين والحائط بينهما أن الشريك في الحائط أولى أن يجمع الدار; لأنه شريك في بعض المبيع، فكان أولى من الجار الذي لا شرك له كالشريك في الشرب والطريق.

                                                وعن أبي يوسف في رواية وهي قول زفر أيضا: أن صاحب الشرك في الحائط أولى من الجار بالحائط وبقية الدار، فأخذها بالجوار مع الجار بينهما لاستوائهما في الجوار.




                                                الخدمات العلمية