الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4892 4893 4894 ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فادعوا فساد هذا الحديث، وأنكروا أن يكون علي - رضي الله عنه - قال من ذلك شيئا; لأنه قد روي عنه ما يخالف ذلك ويدفعه، وهو ما حدثنا سليمان بن شعيب ، قال: ثنا الخصيب بن ناصح ، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم ، عن مطرف ، عن عمير بن سعيد النخعي ، قال: قال علي : ( - رضي الله عنه -: " من شرب الخمر فجلدناه فمات وديناه; لأنه شيء صنعناه". .

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني ، قال: أنا شريك ، عن أبي حصين ، عن عمير بن سعيد ، عن علي : - رضي الله عنه - قال: "ما حددت أحدا فمات فيه فوجدت في نفسي شيئا إلا الخمر، فإن رسول الله -عليه السلام- لم يسن فيه شيئا".

                                                فهذا علي - رضي الله عنه - يخبر أن رسول الله -عليه السلام- لم يكن يسن في شرب الخمر حدا. .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الطائفة الذين قالوا: لم يكن يستوفي حد شارب الخمر في زمن النبي -عليه السلام- شيء.

                                                يقول علي - رضي الله عنه - في حديث عمير بن سعيد الذي رواه البخاري وغيره: وذلك أن رسول الله -عليه السلام- لم يسنه.

                                                وذهب الحسن البصري والشعبي وأبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وأحمد في رواية على أن حد السكران ثمانون سوطا على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهم -.

                                                قوله: "فادعوا" أي ادعى هؤلاء الآخرون فساد حديث عبد الله الداناج الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه. بيان ذلك أنهم قالوا: لا نسلم صدور هذا القول من علي - رضي الله عنه - فإن عندنا دلائل تدل على أن عليا لم يقل [ ص: 524 ] ذلك، وأن الذي روي عنه يخالف ذلك، منها ما روي عنه أنه قال: "لأنه شيء صنعناه" أي لأن الحد في الخمر شيء نحن صنعناه، ولم يسن فيه النبي -عليه السلام- شيئا.

                                                أخرجه بإسناد صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني عن الخصيب بن ناصح الحارثي ، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي المروزي ، عن مطرف بن طريف الحارثي ، عن عمير بن سعيد النخعي ، عن علي - رضي الله عنه -.

                                                وأخرجه ابن ماجه: عن عبد الله بن محمد الزهري ، عن سفيان بن عيينة ، عن مطرف ، عن عمير بن سعيد قال: قال علي - رضي الله عنه -: "كنت أدي من أقمت عليه الحد إلا شارب الخمر; فإن رسول الله -عليه السلام- لم يسن فيه شيئا، إنما هو شيء جعلناه نحن".

                                                وقد صرح بذلك المعنى في الحديث الذي أخرجه أيضا بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان ، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري ، عن شريك بن عبد الله النخعي ، عن أبي حصين -بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين- عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي ، عن عمير بن سعيد النخعي الصهباني الكوفي ، عن علي - رضي الله عنه -.

                                                وأخرجه البخاري: ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، نا خالد بن الحارث، نا سفيان، نا أبو حصين، سمعت عمير بن سعيد النخعي، سمعت علي بن أبي طالب قال: "ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله -عليه السلام- لم يسنه".

                                                وأخرجه مسلم: ثنا محمد بن منهال الضرير، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سفيان الثوري .... إلى آخره نحوه.

                                                [ ص: 525 ] وأخرجه أبو داود وابن ماجه أيضا .

                                                فهذا علي - رضي الله عنه - أخبر أن النبي -عليه السلام- لم يسن في الخمر شيئا من الحد المقدر؛ ولذلك قال: "وديناه" وإنما قال ذلك احتياطا حيث وضع شيئا لم يسنه رسول الله -عليه السلام- ومعناه أدينا ديته من ودى يدي دية، أصلها ودية على ما عرف.

                                                ويستفاد من هذين الحديثين أحكام:

                                                الأول: أن من مات فيه من الضرب لأجل السكر تجب الدية على قاتله; لقول علي - رضي الله عنه -: "وديناه" وإليه ذهب الشافعي وقال: وجوب الدية لأجل الإحداث على الأربعين على وجه التعزيز.

                                                قلت: لم يفهم من هذا أن الأربعين كان الحد حتى تجب الدية في الإحداث عليها، بل الحديث يدل على أن حد الخمر لم يكن مؤقتا في زمن النبي -عليه السلام-.

                                                فإن قيل: روي عن أبي سعيد ، عن النبي -عليه السلام-: "أنه ضرب في الخمر أربعين".

                                                قلت: فسر هذا ما رواه أنس - رضي الله عنه -: "أنه -عليه السلام- أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين".

                                                أخرجه البخاري ومسلم .

                                                فهذا يبين أنه كان ثمانين، على أن الطبري ادعى أن حد الخمر ثمانون، وأول ضربه -عليه السلام- أربعين بأن المضروب كان عبدا، أو أنه ضربه كذلك بسوطين، فإذا كان كذلك يكون الثمانون هو جميع الحد، فلا يجب حينئذ شيء على أحد إذا مات المحدود من الضرب، وعن هذا قال أصحابنا: إن من مات من ضرب حد وجب عليه، أنه لا دية فيه على الإمام ولا على بيت المال، ولكن اختلفوا فيمن مات [ ص: 526 ] من التعزير، فقال الشافعي: عقله على عاقلة الإمام وعليه الكفارة، وقيل: على بيت المال، وجمهور العلماء أنه لا شيء عليه، وقال المنذري: وإذا ضرب الإمام شارب الخمر أربعين فمات لا يضمنه، ومن جلده ثمانين ومات ضمن نصف الدية، وإن جلده واحدا وأربعين ضمن نصف الدية، وقيل: يضمن جزءا من أحد وأربعين جزءا من الدية.

                                                قلت: هذا على ما ذهبوا إليه من أن حد السكر كان مقدرا بأربعين في زمن النبي -عليه السلام- وأما على ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية فلا يتمشى ذلك; لأنهم قالوا: إن حد السكر لم يكن موقتا في زمنه -عليه السلام- وإنما ثبت ذلك واستقر على الثمانين في زمن الصحابة، فصار حدا من حدود الله، فلا يجب شيء على أحد إذا مات المحدود.

                                                وأما قول علي - رضي الله عنه -: "وديناه" فقد ذكرنا أنه قال ذلك احتياطا؛ حيث وضع شيئا لم يسنه -عليه السلام-.

                                                الثاني: فيه أن وجوب الحد يتعلق بنفس الشرب في الخمر ولا يشترط فيه السكر بخلاف غير الخمر فإنه لا يحد فيه إلا بالسكر.

                                                الثالث: أن حد السكر لم يكن موقتا في زمن النبي -عليه السلام- على ما ذكرناه.




                                                الخدمات العلمية