الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
774 - وأخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، [ ص: 1204 ] قال : حدثنا شيبان بن فروخ ، قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، قال : حدثنا يزيد بن صهيب ، قال : مررت بجابر بن عبد الله ، وهو في حلقة يحدث أناسا ، فجلست إليه ، فسمعته يذكر أناسا يخرجون من النار ، قال : وكنت يومئذ أنكر ذلك ، قال : فقلت : والله ما أعجب من الناس ، ولكن أعجب منكم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الله - عز وجل - : ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ) ، فانتهرني أصحابه ، وكان أحلمهم ، فقال : دعوا الرجل ، ثم قال : إنما قال الله - عز وجل - كما قال : ( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم * يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ) قال : [ أو ] ما تقرأ القرآن : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) .

قال : فإن الله - عز وجل - عذب قوما بخطاياهم ، فإن شاء أن يخرجهم [ ص: 1205 ] أخرجهم ، قال : فلم أكذب به بعد ذلك .

قال محمد بن الحسين - رحمه الله - :

إن المكذب بالشفاعة أخطأ في تأويله خطأ فاحشا ، خرج به [ عن ] الكتاب والسنة ، وذلك أنه عمد إلى آيات من القرآن نزلت في أهل الكفر ، أخبر الله - عز وجل - : أنهم إذا دخلوا النار أنهم غير خارجين منها ، فجعلها المكذب بالشفاعة في الموحدين ، ولم يلتفت إلى أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات الشفاعة أنها إنما هي لأهل الكبائر ، والقرآن يدل على هذا ، فخرج بقوله السوء عن جملة ما عليه أهل الأيمان ، واتبع غير سبيلهم ، قال الله - عز وجل - : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) .

قال محمد بن الحسين - رحمه الله - :

فكل من رد سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنن أصحابه - رضي الله عنهم - فهو ممن شاقق الرسول وعصاه ، وعصى الله - عز وجل - بتركه قبول السنن ، ولو عقل هذا الملحد وأنصف من نفسه ، علم أن أحكام الله تعالى وجميع ما تعبد به خلقه ، إنما تؤخذ من الكتاب والسنة ، وقد أمر الله - عز وجل - نبيه عليه السلام : أن يبين لخلقه ما أنزله عليه مما تعبدهم به ، فقال جل ذكره : [ ص: 1206 ] ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) .

وقد بين صلى الله عليه وسلم لأمته جميع ما فرض الله - عز وجل - عليهم من جميع الأحكام ، وبين لهم أمر الدنيا وأمر الآخرة ، وجميع ما ينبغي أن يؤمنوا به ، ولم يدعهم جهلة لا يعلمون ، حتى أعلمهم أمر الموت والقبر وما يلقى المؤمن ، وما يلقى الكافر ، وأمر المحشر والوقوف ، وأمر الجنة والنار حالا بعد حال ، يعرفه أهل الحق ، وسنذكر كل باب في موضعه ، إن شاء الله .

اعلموا يا معشر المسلمين ؛ أن أهل الكفر لما دخلوا النار ورأوا العذاب الأليم ، وأصابهم الهوان الشديد ، نظروا إلى قوم من الموحدين معهم في النار فعيروهم بذلك ، وقالوا : ما أغنى عنكم إسلامكم في الدنيا وأنتم معنا في النار ؟ فزاد أهل التوحيد من المسلمين حزنا وغما ، فاطلع الله عز وجل على ما نالهم من الغم بتعيير أهل الكفر لهم ؛ فأذن الله في الشفاعة ، فيشفع الأنبياء والملائكة والشهداء والعلماء والمؤمنون في من دخل النار من المسلمين ، فأخرجوا منها على حسب ما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على طبقات شتى فدخلوا الجنة ، فلما فقدهم أهل الكفر ودوا حينئذ لو كان مسلمين ، وأيقنوا أنه ليس شافع يشفع لهم ، ولا صديق حميم يغني عنهم من [ ص: 1207 ] عذابهم شيئا .

قال الله - عز وجل - في أهل الكفر لما نضجوا بالعذاب ، وعلموا أن الشفاعة لغيرهم قالوا : ( فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ) الآية .

وقال عز وجل : ( فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما أضلنا إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم ) .

وقال عز وجل في سورة المدثر ، وقد أخبر أن الملائكة قالت لأهل الكفر : ( ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) .

قال محمد بن الحسين - رحمه الله - :

هذه كلها أخلاق الكفار ، فقال عز وجل : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) ، فدل على أن لابد من شفاعة ، وأن الشفاعة لغيرهم ، لأهل التوحيد خاصة .

[ ص: 1208 ] وقال عز وجل : ( تلك آيات الكتاب وقرآن مبين * ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) .

قال محمد بن الحسين - رحمه الله - :

وإنما يود الكفار أن لو كانوا مسلمين عندما رأوا معهم في النار قوما من الموحدين فعيروهم ، وقالوا : ما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا في النار ، فحزنوا من ذلك ، فأمر الله - عز وجل - الملائكة والأنبياء ومن سائر المؤمنين أن يشفعوا فيهم ، فشفعوا ، فأخرج من في النار من أهل التوحيد ، ففقدهم أهل الكفر ، فسألوا عنهم ، فقيل : شفع فيهم الشافعون ، لأنهم كانوا مسلمين ، فعندها ودوا لو كانوا مسلمين حتى تلحقهم الشفاعة . [ ص: 1209 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية