الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 210 ] المسألة الخامسة

          اختلفوا في جواز الحكم الشرعي بالحكم الشرعي فجوزه قوم ومنع منه آخرون ، وشرطوا في العلة ألا تكون حكما شرعيا .

          ونحن نشير إلى مأخذ الفريقين وننبه على ما فيه ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار .

          فأما من قال بأن الحكم يجوز أن يكون علة للحكم فقد احتجوا عليه بأن أحد الحكمين قد يكون دائرا مع الحكم الآخر وجودا وعدما ، والدوران دليل كون المدار عليه الدائر [1] وسنبين أن الدوران لا يدل على التعليل فيما بعد .

          وأما القائلون بامتناع التعليل بالحكم فقد احتجوا بأن الحكم إذا كان علة لحكم آخر ، فإما أن يكون متقدما عليه أو متأخرا عنه أو مقارنا له .

          لا جائز أن يقال بالأول وإلا لزم منه وجود العلة مع تخلف حكمها عنها ، وهو نقض للعلة .

          ولا جائز أن يقال بالثاني ; لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم .

          وإن كان الثالث ، فليس جعل أحدهما علة للآخر أولى من العكس .

          وأيضا فإنه يحتمل أن لا يكون لحكم الأصل علة ويحتمل أن يكون ، وإذا كان معللا احتمل ألا يكون الحكم به هو العلة واحتمل أن يكون ، وعلى هذا فلا يكون علة على تقديرين وإنما يكون علة على تقدير واحد ، ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد .

          وأيضا فإنه لو كان الحكم علة للحكم فإما أن يكون علة بمعنى الأمارة المعرفة أو بمعنى الباعث .

          لا جائز أن يقال بالأول لما سبق [2] ، ولا جائز أن يقال بالثاني ، لأن القول بكون الحكم داعيا وباعثا على الحكم محال خارق للإجماع .

          [ ص: 211 ] ولقائل أن يقول : أما الحجة الأولى فلا نسلم امتناع التقدم .

          قولهم : يلزم منه نقض العلة ليس كذلك ، فإن الحكم لم يكن علة لنفسه وذاته بل إنما يصير علة باعتبار الشرع له بقران الحكم الآخر به ، وذلك كما في تعليل تحريم شرب الخمر بالشدة المطربة فإن الشدة المطربة وإن كانت متقدمة على التحريم فلا يقال إنها علة قبل اعتبارها من الشرع بقران التحريم بها ، فلا تكون منتقضة بتخلف التحريم عنها قبل ورود الشرع ، وإن سلمنا امتناع التقدم فما المانع أن يكون مقارنا ؟

          قولهم : ليس جعل أحد المقترنين علة للآخر أولى ليس كذلك ، فإن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا كان أحد الحكمين مناسبا للحكم الآخر من غير عكس ، وإلا فمع قطع النظر عن جهة البعث في أحد الحكمين فلا يكون علة .

          وما ذكروه من الترجيح فهو لازم عليهم في التعليل بالأوصاف الحقيقية ، وما هو جواب ثم فهو الجواب فيما نحن فيه .

          وأما الحجة الثانية ، فالمختار من قسميها أنه علة بمعنى الباعث .

          قولهم : إنه ممتنع خارق للإجماع - دعوى مجردة لا دليل عليها .

          وعند هذا فنقول : المختار أنه يجوز أن يكون الحكم علة للحكم بمعنى الأمارة المعرفة ، لكن لا في أصل القياس بل في غيره ، فقد حرمت ، كذا فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع : مهما رأيتم أنني حرمت كذا فقد حرمت كذا ، ومهما أبحت كذا ، كما لو قال : مهما زالت الشمس فصلوا ، ومهما طلع هلال رمضان فصوموا .

          وأما في أصل القياس فقد بينا أنه لا يجوز أن تكون العلة فيه بمعنى الأمارة المعرفة بل بمعنى الباعث ، فإذا كان الحكم علة لحكم أصل القياس فلا بد وأن يكون باعثا عليه .

          وعلى هذا فحكم الأصل إما أن يكون حكما تكليفيا أو بخطاب الوضع والأخبار .

          [ ص: 212 ] فإن كان ثابتا بخطاب التكليف امتنع أن يكون الحكم الشرعي علة له ; لأنه غير مقدور للمكلف لا في إيجاده ولا في إعدامه ، فلا يصلح أن يكون علة لما ذكرناه في امتناع التعليل بالوصف العدمي ، وبما ذكرناه أيضا يمتنع تعليله بالوصف العرفي والتقديري ، والوصف الوجودي الذي لا قدرة للمكلف على تحصله ، كالشدة المطربة والطعم والنقدية والصغر ونحوه .

          وأما إن كان حكم الأصل ثابتا بخطاب الوضع والإخبار فلا بد وأن يكون الحكم المعلل به باعثا على حكم الأصل ، إما لدفع مفسدة لزمت من شرع الحكم المعلل به ، وإما لتحصيل مصلحة تلزم منه ، فإن كان الأول فيمتنع أن يكون الحكم علة ; لأن المفسدة اللازمة من الحكم المعلل به كانت مطلوبة الانتفاء بشرع حكم الأصل ; لما شرع الحكم المعلل به لما يلزم من شرعه من وجوه مفسدة مطلوبة الانتفاء للشارع ، وإن كان الثاني فلا يمتنع الحكم بالحكم فإنه لا يمتنع أن يكون ترتيب أحد الحكمين على الآخر يستلزم حصول مصلحة لا يستقل بها أحدهما ، فقد ينحل من هذه الجملة أن إطلاق القول بامتناع التعليل بالحكم الشرعي وجوازه ممتنع ، بل لا بد من النظر إلى ما ذكرناه لما ذكرناه من التفصيل .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية