الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 216 ] المسألة السابعة

          اتفق الكل على أن تعدية العلة شرط في صحة القياس ، وعلى صحة العلة القاصرة كانت منصوصة أو مجمعا عليها .

          وإنما اختلفوا في صحة العلة القاصرة إذا لم تكن منصوصة ولا مجمعا عليها .

          وذلك كتعليل أصحاب الشافعي حرمة الربا في النقدين بجوهرية الثمينة .

          فذهب الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل والقاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى صحتها .

          وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبد الله البصري والكرخي إلى إبطالها .

          والمختار صحتها ، وقد احتج القائلون بذلك بمسالك :

          المسلك الأول : أنهم قالوا : تعدية العلة إلى الفرع موقوف على صحتها في نفسها ، فلو كانت صحتها متوقفة على تعديتها كان دورا ممتنعا .

          ولقائل أن يقول : إن أردتم بالتعدية الموقوفة على صحة العلة ثبوت الحكم بها في الفرع فهو مسلم ، وإن أردتم بالتعدية الموقوفة على صحة العلة وجودها في الفرع لا غير ، فهو غير مسلم .

          وعلى هذا فنحن لا نقول بأن التعدية بالاعتبار الأول شرط في صحة العلة ليكون دورا ، وإنما نقول بأن شرط صحة العلة التعدية بالاعتبار الثاني ، وهو غير مفض إلى الدور ، فإن صحة العلة وإن كانت مشروطة بوجودها في غير محل النص ، فوجودها غير متوقف على صحتها في نفسها فلا دور ، وإن سلمنا توقف التعدية على الصحة وتوقف الصحة على التعدية ، فإنما يلزم الدور أن لو كان ذلك التوقف مشروطا بتقدم كل واحد من الأمرين على الآخر ، وأما إذا كان ذلك بجهة المعية كما في توقف كل واحد من المضافين على الآخر فلا دور .

          المسلك الثاني : أنهم قالوا : إذا دار الحكم مع الوصف القاصر وجودا وعدما دل على كونه علة كالمتعدي ، وهو غير صحيح لما سنبينه من إبطال التمسك بالدوران .

          [ ص: 217 ] المسلك الثالث : أنهم قالوا : إذا جاز أن تكون علة عند دلالة النص عليها جاز أن تكون علة بالاستنباط ، وهو غير صحيح أيضا ، وذلك لأن عليتها عند دلالة النص عليها مستفادة من النص ، ودلالة النص عليها غير متحققة حالة استنباطها ، فلا يلزم أن تكون علة .

          فإن قيل : إذا دل النص على علية الوصف القاصر وجب الحكم بعلية المستنبط لما بينهما من الاشتراك في الحكمة ، قلنا : هذا قياس في الأسباب وسيأتي إبطاله .

          والمعتمد في ذلك أن يقال : إذا كان الوصف القاصر مناسبا للحكم والحكم ثابت على وفقه غلب على الظن كونه علة للحكم ، بمعنى كونه باعثا عليه ، ولا معنى لصحة العلة سوى ذلك .

          فإن قيل : القضاء بصحة العلة يستدعي فائدة ، فإن ما لا فائدة فيه لا يمكن القضاء بصحته ، وفائدة العلة إنما هي في إثبات الحكم بها ، والعلة القاصرة غير مثبتة للحكم في الأصل ; لكونه بالنص أو الإجماع ، ولأنها مستنبطة منه فتكون فرعا عليه ، فلو كانت مثبتة له لكان فرعا عليها وهو دور ، ولا هي مثبتة للحكم في الفرع لعدم تعديتها ، فقد تعرت عن الفائدة بالكلية فلا تكون صحيحة .

          قلنا : وإن سلمنا امتناع إثبات الحكم بالعلية القاصرة ، وأن إثبات الحكم بها فائدة لها ، ولكن لا نسلم انحصار فائدتها في ذلك بل لها ثلاث فوائد أخر :

          الأولى : معرفة كونها باعثة على الحكم بما اشتملت عليه من المناسبة أو الشبه ، وإذا كانت باعثة على الحكم كان الحكم معقول المعنى ، وكان أدعى إلى الانقياد وأسرع في القبول له مما لم يظهر فيه الباعث ، وكان تعبدا ، وإذا كان كذلك كان أفضى إلى تحصيل مقصود الشرع من شرع الحكم فكان التعليل بها مفيدا .

          الثانية : أن العلة إذا كانت قاصرة فبتقدير ظهور وصف آخر متعد في محلها يمتنع تعدية الحكم به دون ترجيحه على العلة القاصرة ، وذلك من أجل الفوائد .

          الثالثة : أنه إذا كانت القاصرة علة وعرفناها ، فقد امتنع بسببها تعدية الحكم إلى الفرع وذلك أيضا من أتم الفوائد .

          [ ص: 218 ] فإن قيل : وإن كان ما ذكرتموه من جملة الفوائد ، وأن ذلك مما يغلب على الظن الصحة ، غير أن العمل بالظن على خلاف قوله تعالى : ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) وحيث خالفناه في العلة المتعدية لاشتمالها على ما ذكرتموه من الفوائد وزيادة فائدة التعدية فلا يلزم منه المخالفة فيها [1] دون ذلك .

          قلنا : يجب حمل الآية على ما المطلوب فيه القطع جمعا بينه وبين ما ذكرناه من الدليل .

          سلمنا أنه لا فائدة في العلة القاصرة ، ولكن لا يلزم من ذلك امتناع القضاء بصحتها بدليل ما لو كانت منصوصة .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية