الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 95 ] المسألة الخامسة

          اتفق الكل على أن مفهوم اللقب ليس بحجة خلافا للدقاق وأصحاب الإمام أحمد بن حنبل ، _رحمه الله_ .

          وصورته أن يعلن الحكم إما باسم جنس ، كالتخصيص على الأشياء الستة بتحريم الربا أو باسم علم ، كقول القائل : زيد قائم أو قام .

          والمختار إنما هو مذهب الجمهور ، لكن قد احتج بعض القائلين بإبطاله بحجج لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ما فيها ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار .

          الحجة الأولى : لو كان مفهوم اللقب حجة ، لبطل القياس وذلك ممتنع ، وبيان لزوم ذلك أن القياس لا بد فيه من أصل ، وحكم الأصل إما أن يكون منصوصا أو مجمعا عليه : فلو كان النص على الحكم في الأصل أو الإجماع عليه يدل على نفي الحكم عن الفرع فالحكم في الفرع إن ثبت بالنص أو الإجماع ، فلا قياس ، وإن ثبت بالقياس على الأصل ، فهو ممتنع لما فيه من مخالفة النص أو الإجماع الدال على نفي الحكم في الفرع .

          ولقائل أن يقول : النص الوارد في الأصل ، وإن دل على نفي الحكم في الفرع فليس بصريحه ، بل بمفهومه ، وذلك مما لا يمنع عند القائلين به من إثبات الحكم بمعقول النهي وهو القياس فلا يفضي إلى إبطال القياس ، وغايته التعارض لا الإبطال .

          الحجة الثانية : أنه لو كان مفهوم اللقب حجة ودليلا ، لكان القائل إذا قال : " عيسى رسول الله " فكأنه قال : " محمد ليس برسول الله " وكذلك إذا قال : " زيد موجود " فكأنه قال : " الإله ليس بموجود " وهو كفر صراح ، ولم يقل بذلك قائل .

          ولقائل أن يقول : من الخصوم إنما لا يكون المتكلم بذلك كافرا إذا لم يكن متنبها لدلالة اللفظ ، أو كان متنبها لها ، غير أنه لم يرد بلفظه ما دل عليه مفهومه ، وأما إذا كان متنبها لدلالة لفظه وهو مريد لمدلولها فإنه يكون كافرا .

          [ ص: 96 ] الحجة الثالثة : أنهم قالوا : إذا قال القائل : " زيد يأكل " لا يفهم منه أن عمرا لا يأكل .

          ولقائل أن يقول : لا يفهم منه ذلك من يعتقد دلالة مفهوم اللقب ، أو من لا يعتقده ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم .

          وعدم فهم ذلك بالنسبة إلى من لا يعتقد دلالته لا يدل على عدم دلالته في نفسه .

          الحجة الرابعة : أنه لو كان مفهوم اللقب دليلا لما حسن من الإنسان أن يخبر أن زيدا يأكل ، إلا بعد علمه أن غيره لم يأكل وإلا كان مخبرا بما يعلم أنه كاذب فيه ، أو بما لا يأمن فيه من الكذب ، وحيث استحسن العقلاء ذلك مع عدم علمه بذلك دل على عدم دلالته على نفي الأكل عن غير زيد .

          ولقائل أن يقول : إذا أخبر بذلك ، فلا يخلو إما أن يكون عالما بأن غير زيد يأكل ، أو غير عالم بذلك ، وعلى كلا التقديرين إنما لم يستقبح منه ذلك لظهور القرينة الدالة على أنه لم يرد سوى مدلول صريح لفظه دون مفهومه لعدم علمه بذلك في إحدى الحالتين وعلمه بوقوع الأكل من غير زيد في الحالة الأخرى ، فإن الظاهر من حال العاقل أنه لا يخبر عن نفي ما لم يعلمه ولا نفي ما علم وقوعه حتى إنه لو ظهر منه ما يدل على إرادته لنفي ما دل عليه لفظه عند القائلين به لكان مستقبحا .

          والمختار في إبطال ما سبق في المسائل المتقدمة .

          وأما حجج الخصوم وجوابها فعلى ما سبق في مفهوم التقييد بالصفة .

          وربما احتجوا في خصوص هذه المسألة بحجج أخرى ، وهو أنه لو تخاصم شخصان فقال أحدهما للآخر : " أما أنا فليس لي أم ولا أخت ولا امرأة زانية " فإنه يتبادر إلى الفهم نسبة الزنا منه إلى زوجة خصمه وأمه وأخته ، ولهذا قال أصحاب أحمد بن حنبل ومالك بوجوب حد القذف عليه .

          وجوابه أن ذلك إن فهم منه فإنما يفهم من حاله لا من دلالة مقاله بدليل ما أسلفناه ، ولذلك لم يكن حد القذف عندنا واجبا بذلك ، وعلى هذا يكون الحكم في مفهوم الاسم العام المشتق كقوله : " لا تبيعوا الطعام بالطعام " .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية