الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 276 ] الفصل الخامس

          [1] اختلفوا في الحكم إذا ثبت لوصف مصلحي على وجه يلزم منه وجود مفسدة مساوية له أو راجحة عليه ، هل تنخرم مناسبته أو لا ؟ فأثبته قوم ونفاه آخرون .

          وقد احتج من قال ببقاء المناسبة من وجوه أربعة :

          الأول : أن مناسبة الوصف تنبني على ما فيه من المصلحة ، والمصلحة أمر حقيقي لا تختل [2] بمعارضة المفسدة ، ودليله [3] أن المصلحة والمفسدة المتعارضتان إما أن يتساويا أو تترجح إحداهما على الأخرى ، فإن كان الأول : فإما أن تبطل كل واحدة منهما بالأخرى ، أو أن تبطل إحداهما بالأخرى من غير عكس ، أو لا تبطل واحدة منها بالأخرى . الأول محال ; لأن عدم كل واحدة منهما إنما هو بوجود الأخرى ، وذلك يجر إلى وجودهما مع عدمهما ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون متحققة مع المعلول . والثاني محال [4] ; لعدم الأولوية ، والثالث [5] هو المطلوب ، وإن كانت إحداهما أرجح من الأخرى فلا يلزم منه إبطال المرجوحة إلا أن تكون بينهما منافاة ، ولا منافاة لما بيناه من جواز اجتماعهما في القسم الأول ، ولأن الراجحة منهما إذا كانت معارضة بالمرجوحة ، فإما أن ينتفي شيء من الراجحة لأجل المرجوحة أو لا ينتفي منها شيء ، فإن كان الأول فهو محال أن تتساويا لما سبق في القسم الأول ، ولأنه ليس انتفاء بعض الراجح وبقاء بعضه أولى من العكس ; ضرورة التساوي في الحقيقة وإن تفاوتا ، فالكلام في الراجح كالكلام في [ ص: 277 ] الأول وهو تسلسل ممتنع ، وإذا كانت المصلحة لا تختل بمعارضة المفسدة ، فالعقل يقضي بمناسبتها للحكم ، وبالنظر إلى المعارض يقضي بانتفاء الحكم لأجل المعارض ، ولهذا يحسن من العاقل أن يقول : الداعي إلى إثبات الحكم موجود غير أنه يمنعني منه مانع ، ولو اختلت مناسبة الوصف لما حسن من العاقل هذه المقالة .

          الوجه الثاني : أنه قد يتعارض في نظر الملك عند الظفر بجاسوس عدوه المنازع له في ملكه قتله وعقوبته زجرا له ولأمثاله عن الحبس [6] المضر به والإحسان إليه وإكرامه ، إما للاستهانة بعدوه أو لقصد كشف أسراره ، وأي الأمرين سلك فإنه لا يعد خارجا عن مذاق الحكمة ومقتضى المناسبة ، وإن لزم منه فوات المقصود الحاصل من سلوك مقابله ، وسواء تساويا أو كان أحدهما راجحا .

          الثالث : أنه إذا اجتمع الأخ من الأبوين مع الأخ من الأب في الميراث فإنه قد يتعارض في نظر الناظر تقديم الأخ من الأبوين لاختصاصه بقرابة الأمومة ، والتسوية بينهما لاشتراكهما في جهة العصوبة وإلغاء قرابة الأمومة ، وتفضيل الأخ من الأبوين لاختصاصه بمزيد القرابة ، ومع ذلك فالعقل يقضي بتأدي النظر [7] من غير احتياج إلى ترجيح بأن ورود الشرع بالاحتمال الأول مناسب غير خارج عن مذاق العقول ، ولو كان ترجيح الوصف المصلحي معتبرا في مناسبته لما كان كذلك .

          الرابع : أن الشرع قد ورد بصحة الصلاة في الدار المغصوبة نظرا إلى ما فيها من المصلحة ، وبتحريمها نظرا إلى ما فيها من مفسدة الغصب . فلو اشترط الترجيح في المناسبة لما ثبت الصحة ولا التحريم بتقدير التساوي بين مصلحة الصحة ومفسدة التحريم ، ولا حكم الصحة بتقدير رجحان مفسدة الغصب ولا التحريم بتقدير رجحان مصلحة الصحة لعدم المناسبة .

          وهذه الحجج ضعيفة .

          [ ص: 278 ] أما الحجة الأولى فلقائل أن يقول : إن أردت أن مناسبة الوصف تنبني على أنه لا بد في المناسبة من المصلحة على وجه لا يستقل بالمناسبة فمسلم ، ولكن لا يلزم من وجود بعض ما لا بد منه في المناسبة تحقق المناسبة ، وإن أردت أنها مستقلة بتحقيق المناسبة فممنوع ، وذلك لأن المصلحة وإن كانت متحققة في نفسها فالمناسبة أمر عرفي ، وأهل العرف لا يعدون المصلحة العارضة بالمفسدة المساوية أو الراجحة مناسبة ، ولهذا إن من حصل مصلحة درهم على وجه يفوت عليه عشرة يعد سفيها خارجا في تصرفه عن تصرفات العقلاء ، ولو كان ذلك مناسبا لما كان كذلك ، وعلى هذا فلا يلزم من اجتماع المصلحة والمفسدة تحقق المناسبة .

          وقوله : غير أنه يمنعني منه مانع . وإن كان صحيحا في العرف فليس ذلك إلا لإخلال المانع المفسدي بمناسبة المصلحة لا بمعنى أن الانتفاء محال على المفسدة [8] مع وجود المناسب للحكم .

          وعلى هذا نقول بأن مناسبة كل واحدة من المصلحة والمفسدة تختل بتقدير التساوي وبتقدير مرجوحية إحداهما ، فالمختل مناسبتها دون مناسبة الراجحة ضرورة فوات شرط المناسبة ، لا لأن كل واحدة علة للإخلال بمناسبة الأخرى أو إحداهما ليلزم في ذلك ما قيل .

          وأما الحجة الثانية : فلقائل أن يقول أيضا : مهما لم يترجح في نظر الملك وأهل العرف مصلحة ما عينه من أحد الطريقين من الإحسان أو الإساءة بمقتضى الحالة الراهنة ، فإن فعله لا يكون مناسبا ، ويكون بتصرفه خارجا عن تصرفات العقلاء .

          وأما الحجة الثالثة : فلقائل أن يقول : لا نسلم جواز الجزم بمناسبة ما عين دون ظهور الترجيح في نظر الناظر ، وبعد ظهور الترجيح فليس الجزم بمناسبة الوصف في نفس الأمر قطعا لجواز أن يكون في نفسه مرجوحا وإن لم يطلع عليه .

          [ ص: 279 ] وأما الحجة الرابعة : فبعيدة عن التحقيق وذلك لأن الكلام إنما هو مفروض في إثبات حكم لمصلحة يلزم من إثباته تحصيلا للمصلحة مفسدة مساوية أو راجحة .

          وما ذكر من مفسدة تحريم الغصب ، وهي شغل ملك الغير غير لازمة من ترتيب حكم المصلحة عليها ، وهو صحة الصلاة ، فإنا وإن لم نقض بصحة الصلاة فالمفسدة اللازمة من الغصب لا تختل بل هي باقية بحالها ، ولو كانت لازمة من حكم المصلحة لا غير لانتفت المفسدة المفروضة بانتفاء حكم المصلحة ، وليس كذلك ، وحيث لم تكن مفسدة تحريم الغصب لازمة عن حكم المصلحة كان من المناسب اعتبار كل واحدة منهما في حكمها ، وهي المصلحة والمفسدة ; إذ لا معارضة بينهما على ما تقرر .

          وإذا تقرر توقف المناسبة على الترجيح فللمعلل ترجيح وصفه بطرق تفصيلية تختلف باختلاف المسائل ، وله الترجيح بطريق إجمالي يطرد في جميع المسائل .

          وحاصله أن يقول المعلل : لو لم يقدر ترجيح المصلحة على ما عارضها من المفسدة مع البحث وعدم الاطلاع على ما يمكن إضافة الحكم إليه في محل التعليل سوى ما ذكرته ، لزم أن يكون الحكم قد ثبت تعبدا ، وهو خلاف الأصل لوجهين :

          الأول : أن الغالب من الأحكام التعقل دون التعبد ، فإدراج ما نحن فيه تحته أولى .

          الثاني : أنه إذا كان معقول المعنى كان الحكم أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول ، فإن الانقياد إلى المعقول المألوف أقرب مما ليس كذلك ، فكان أفضى إلى المقصود من شرع الحكم .

          لكن لقائل أن يقول : ما ذكرتموه من البحث عن وصف آخر يمكن إضافة الحكم إليه مع عدم الظفر به ، وإن دل على ترجيح جهة المصلحة فهو معارض بما يدل على عدم ترجيحها ، وهو عدم الاطلاع على ما به تكون راجحة على معارضها مع البحث عنه وعدم الظفر به ، وليس أحد البحثين أولى من الآخر .

          فإن قلتم : بل ما ذكرناه أولى من جهة أن بحثنا عن وصف صالح للتعليل ، وذلك لا يتعدى محل الحكم فمحله متحد ، وبحثكم إنما هو عما به الترجيح ، وهو غير منحصر في محل الحكم ، فإن ما به الترجيح قد يكون بما يعود إلى ذات العلة ، وقد يكون بأمر خارج عنها كما يأتي تقريره ، فكان ما ذكرناه أولى .

          [ ص: 280 ] قلنا : ما به الترجيح إن كان خارجا عن محل الحكم ، فلا يتحقق به الترجيح في محل الحكم .

          وإن كان في محل الحكم فقد استوى البحثان في اتحاد محلهما ولا ترجيح بهذه الجهة .

          وبتقدير تسليم اتحاد محل بحث المستدل والتعدد في محل بحث المعترض غير أن الظن الحاصل من البحثين : إما أن يكون متساويا ، أو متفاوتا .

          وبتقدير المساواة ورجحان ظن المعترض ، فلا ترجيح في جانب المستدل ، وإنما يترجح بتقدير أن يكون ظنه راجحا .

          ولا يخفى أن ما يقع على تقدير من تقديرين يكون أغلب مما لا يقع إلا على تقدير واحد .

          وينبغي أن يعلم أن اشتراط الترجيح في تحقيق المناسبة إنما يتحقق على رأي من لا يرى تخصيص العلة .

          وأما من يرى جواز تخصيصها وجواز إحالة انتفاء الحكم على تحقق المعارض مع وجود المقتضي ، فلا بد له من الاعتراف بالمناسبة وإن كانت المصلحة مرجوحة أو مساوية ، فإن انتفاء الحكم بالمانع مع وجود المقتضي إما أن يكون لمقصود راجح على مقصود المقتضي للإثبات ، أو مساو له ، أو مرجوح بالنسبة إليه .

          فإن كان راجحا فقد قيل بمناسبة المقتضي للإثبات مع كون مقصوده مرجوحا ، وإلا فلو لم يكن مناسبا كان الحكم منتفيا لانتفاء المناسب لا لوجود المانع ، وإن كان مساويا فكذلك أيضا .

          وإن كانت مفسدة المانع مرجوحة فقد قيل بانتفاء الحكم له ، ولولا مناسبته للانتفاء لما انتفى الحكم به ، فإنه لو جاز أن ينتفي الحكم بما ليس بمناسب لجاز أن يثبت بما ليس بمناسب .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية