الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 88 ] المسألة الثانية

          اختلفوا في الحكم المعلق على شيء بكلمة ( إن ) هل الحكم على العدم عند عدم ذلك الشيء أولا ؟ . فذهب ابن سريج والهراسي [1] من أصحاب الشافعي والكرخي وأبو الحسين البصري إلى أن الحكم على العدم مع عدم ذلك الشرط ، وذهب القاضي عبد الجبار وأبو عبد الله البصري إلى أن الحكم لا يكون على العدم عند عدم الشرط ، وهو المختار .

          وبيانه أن ما علق عليه الحكم بكلمة ( إن ) ، إما أن لا يكون شرطا للحكم أو يكون شرطا : فإن كان الأول ، فلا يلزم من نفيه نفي الحكم ، وإن كان شرطا فلا يخلو ، إما أن يكون من لوازم الشرط انتفاء الحكم المعلق عليه مطلقا عند انتفائه ، و لا يكون لازما له ، الأول محال ، وإلا لامتنع وجود القصر المعلق على الخوف بكلمة ( إن ) في قوله تعالى : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) وهو خلاف الإجماع ، وإن كان الثاني فهو المطلوب .

          فإن قيل : هو من لوازمه بتقدير عدم المعارض ، وليس من لوازمه بتقدير المعارض ، ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه ، وبيانه أن كلمة ( إن ) مسماة في اصطلاح أهل اللغة بالشرط ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولأن قول القائل لغيره : " إن دخل زيد الدار فأكرمه " في معنى قوله دخول زيد الدار شرط في إكرامه ، فكان ما دخلت عليه كلمة ( إن ) شرطا في الحكم ، وإذا كان شرطا لزم من عدمه عدم المشروط ، ويدل عليه ثلاثة أمور :

          الأول : أن يعلى بن أمية فهم من تعليق القصر على الخوف بكلمة ( إن ) عدم القصر عند عدم الخوف حيث سأل عمر قال : " ما بالنا نقصر وقد أمنا " وقد قال تعالى : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ) تركها عمر على ذلك ، وقال له : لقد عجبت مما عجبت منه ، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : " صدقة [ ص: 89 ] تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " .

          [2] وفهم عمر ويعلى ذلك مع تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما على ما فهماه دليل ظاهر على العدم عند العدم .

          الثاني : أن الأمة متفقة على أن الحياة شرط لوجود العلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك ، وإن الحول شرط لوجوب الزكاة ، وحكموا بانتفاء العلم والقدرة عند عدم الحياة وبانتفاء وجوب الزكاة عند عدم الحول ، ولولا أن ذلك مقتضى الشرط لما كان كذلك .

          الثالث : أنه إذا كان الشرط مما لا يثبت الحكم مع عدمه على كل حال ، وهو لا يلزم من وجوده وجود الحكم ، فيلزم أن يكون كل أمرين مختلفين لا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ، ولا من عدمه عدمه شرطا ، وهو محال ، متفق عليه .

          والجواب : قولهم إنه من لوازمه بتقدير عدم المعارض .

          قلنا يجب أن لا يكون مقتضيا لذلك ، حذرا من التعارض بتقدير وجود المعارض .

          وما ذكروه ثانيا : إنا وإن سلمنا أن ما دخلت عليه كلمة ( إن ) شرط ، ولكن لا نسلم أنه يلزم من عدمه عدم المشروط .

          وأما الاستدلال بقضية يعلى بن أمية فليس فيه ما يدل على أن عدم الخوف مانع من ثبوت القصر دونه ، بل لعله فهم أن الأصل عدم القصر ، وحيث ورد القصر حالة الخوف بقوله : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ) ولم يوجد ما يدل على القصر حالة عدم الخوف ، فيبقى على حكم الأصل .

          فإن قيل : ما ذكرتموه من إنما يصح أن لو كان الأصل في الصلاة الإتمام ، وليس كذلك ، بل الأصل في الصلاة عدم الإتمام ، ودليله ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : كانت الصلاة في السفر والحضر ركعتين ، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر [3] فلم يبق للتعجب وجه سوى دلالة اشتراط الخوف وعدم القصر عند عدمه .

          قلنا الصلاة المشروعة بديا ركعتين لا تسمى مقصورة ، كصلاة الصبح ، ولا فعلها قصرا ، وإنما المقصورة اسم لما جوز الاقتصار عليه من ركعتين في الرباعية [ ص: 90 ] ولفظ القصر لنفس الاقتصار على الركعتين من الرباعية ، فإطلاق لفظ القصر في الآية مشعر بسابقة وجوب الإتمام لا محالة .

          وإذا كان الإتمام هو الأصل السابق على القصر فقد بطل ما ذكروه .

          كيف وإن ما ذكرناه من الاحتمال هو الأولى ، وإلا فلو كان اشتراط الخوف في القصر مانعا من القصر مع عدمه ، لما جاز القصر مع عدم الخوف أو كان القصر على خلاف الدليل ، وهو ممتنع من غير ضرورة .

          وأما [4] عدم العلم والقدرة ، وعدم وجوب الزكاة عند عدم الحياة وعدم الحول ، فليس في ذلك ما يدل على أن عدم الشرط مانع من وجود الحكم مع عدمه ولا بد ، بل غايته أن الحكم قد ينتفي في بعض صور نفي الشرط ، ولا نزاع فيه ، وإنما النزاع في لزوم انتفائه من انتفاء شرطه ولا بد .

          وأما الوجه الثالث : فالوجه في جوابه أن يقال : لا يلزم من كون الشرط لا يلزم من ثبوته ثبوت الحكم ، ولا من نفيه نفيه ، إذا كان غير الشرط مشاركا له في هذه الصفة ، أن يكون شرطا لأنه لا يمتنع اشتراك المختلفات في عارض عام لها .

          كيف وإن معنى كون الشيء شرطا لغيره أنه مؤكد لحال المشروط ، بمعنى أنه إذا تحقق الشرط لا يجوز نفي المشروط عند تحقق مقتضيه دفعا لوهم من توهم أن الخطاب لو ورد مطلقا لجاز أن لا يكون المشروط بذلك الشرط مرادا .

          وذلك كما لو قال القائل : " ضح بالشاة وإن كانت عوراء " فإنه لو قال : " ضحوا بالشاة مطلقا " لجاز أن يتوهم متوهم أنه لا يجوز التضحية بالعوراء فكان ذكر هذا الوهم .

          وعلى هذا فلا يلزم أن يكون كل شيء شرطا لكل شيء كما قالوه ، إلا أن يكون الشرط على هذا النحو الذي ذكرناه ، وليس كذلك .

          وإن سلمنا أن الشرط يمنع من وجود المشروط دونه ، ولكن متى إذا أمكن قيام شرط مقام ذلك الشرط ، أو إذا لم يقم مقامه شرط آخر ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم .

          وهذا هو مذهب القاضي عبد الجبار وأبي عبد الله البصري .

          وعلى [ ص: 91 ] هذا فكونه شرطا يتحقق بانتفاء الحكم عند انتفائه ، إذا لم يقم غيره مقامه وإن لم يثبت إذا قام غيره مقامه ، فلم قلتم إن غيره لم يقم مقامه في الشرطية مع أن لفظ الاشتراط لا يدل على وجود شرط آخر ، ولا على عدمه .

          فإن قيل : إذا قال القائل لغيره : " إن دخل زيد الدار فأعطه درهما " ، معناه أن الشرط هو دخول الدار في عطيتك له ، وذلك يقتضي أن يكون كمال الشرط هو دخول الدار ، لأن لام الجنس تقتضي العموم ، ولأن قوله : " إن دخل الدار فأعطه درهما " ، يقتضي عدم الإعطاء عند عدم الدخول ، فلو قام شرط آخر مقامه لزم منه جواز الإعطاء مع عدم الدخول ، فيقتضي الشرط الأول امتناع وجود شرط آخر يقوم مقامه ، لما فيه من إخراج الشرط الأول عن كونه شرطا .

          قلنا : جواب الأول أنا لا نسلم أن معنى قوله : ( إن دخل الدار ) هو الشرط ، بل هو شرط ، وذلك لا يمنع من شرط آخر ، وتقدير لام الجنس هاهنا زيادة لم يدل عليها دليل ، فلا يصار إليها .

          وجواب الثاني : أنا لا نسلم أن قوله : ( إن دخل الدار ) يقتضي عدم الإعطاء عند عدم الدخول مطلقا ، بل إذا لم يقم غيره مقامه . ( لكن قد يمكن أن يقال هاهنا إذا سلم أنه إذا لم يقم غيره مقامه أن عدمه يقتضي العدم ، فالأصل عدم قيام غيره مقامه ، فاقتضى عدمه العدم . )

          وربما احتج القاضي عبد الجبار وأبو عبد الله البصري بأنه لو منع الشرط من ثبوت الحكم عند عدمه لكان قوله تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) يمنع من تحريم الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن ، وهو محال مخالف للإجماع .

          ولقائل أن يقول : ذكر إرادة التحصن إنما كان لكونه شرطا في الإكراه لاستحالة تحقق الإكراه على الزنا في حق من هو مريد له غير مريد للتحصن ، لا لأنه شرط في تحريم الإكراه على الزنا ، والله أعلم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية