الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 230 ] المسألة التاسعة

          اختلفوا في الكسر ، وهو تخلف الحكم المعلل عن معنى العلة وهو الحكمة المقصودة من الحكم ، هل هو مبطل للعلة أو لا ؟ .

          وصورته ما لو قال الحنفي في مسألة العاصي بسفر مسافر ، فوجب أن يترخص في سفره كغير العاصي في سفره ، وبين مناسبة السفر بما فيه من المشقة .

          فقال المعترض : ما ذكرته من الحكمة وهي المشقة منتقضة ، فإنها موجودة في حق الحمال وأرباب الصنائع الشاقة في الحضر ، ومع ذلك فإنه لا رخصة ، والأكثرون على أن ذلك غير مبطل للعلة .

          والوجه فيه أن الكلام إنما هو مفروض في الحكمة التي ليست منضبطة بنفسها بل بضابطها ، وعند ذلك فلا يخفى أن مقدارها مما لا ينضبط ، بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال ، وما هذا شأنه فدأب الشارع فيه رد الناس إلى المظان الظاهرة الجلية دفعا للعسر عن الناس والتخبط في الأحكام على ما قال تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) وعلى هذا فيمتنع التعليل بها دون ضابطها ، وإذا لم تكن علة فلا معنى لإيراد النقض عليها .

          فإن قيل : المقصود من شرع الحكم إنما هو الحكمة دون ضابطها ، وعند ذلك فيحتمل أن يكون مقدار الحكمة في صورة النقض مساويا لمقدارها في صورة التعليل ، ويحتمل أن يكون أزيد ، ويحتمل أن يكون أنقص ، وعلى تقدير المساواة والزيادة فقد وجد في صورة النقص ما كان موجودا في صورة التعليل ، وإنما لا يكون موجودا بتقدير أن يكون أنقص .

          ولا يخفى أن ما يتم على تقديرين أغلب على الظن مما لا يتم إلا على تقدير واحد ، ومع ذلك فيظهر إلغاء ما ظن أن الحكم معلل به .

          قلنا : الحكمة وإن كانت هي المقصودة من شرع الحكم لكن على وجه تكون مضبوطة إما بنفسها أو بضابطها لما ذكرناه ، وما فرض من الحكمة في صورة النقض مجردة عن ضابطها فامتنع كونها مقصودة ، وبتقدير كونها [ ص: 231 ] مقصودة فالنقض إنما هو من قبيل المعارض لدليل كونها معللا بها ، وعلى هذا فانتفاء الحكم مع وجود الحكمة في دلالته على إبطال التعليل بالحكمة مرجوح بالنظر إلى دليل التعليل بها ، وذلك لأنه من المحتمل أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لمعارض ، ومع هذا الاحتمال فتخلف الحكم عنها لا يدل على إبطالها .

          فإن قيل : بحثنا وسبرنا فلم نطلع على ما يصلح معارضا في صورة النقص [1] فيظهر أن انتفاءه لانتفاء العلة ، فهو معارض بقول المستدل : بحثت في محل التعليل فلم أطلع على ما يصلح للتعليل سوى ما ذكرته ، فدل على التعليل به .

          فإن قيل : بحثنا راجح ; لما فيه من موافقة انتفاء الحكم لانتفاء علته إذ هو الأصل نفيا للتعارض ، فهو معارض بما بحث المستدل من موافقة ما ظهر من دليل العلة من المناسبة والاعتبار فيتقاومان ، ويترجح كلام المستدل بأن مقدار الحكمة في صورة التعليل وإن كان مظنون الوجود في صورة النقض فيحتمل أن لا يكون موجودا فيها ، وإلا كان مقطوعا لا مظنونا ، وهو موجود في صورة التعليل قطعا مع قران الحكم به قطعا ، وهو دليل العلية ، وما هو دليل البطلان فوجودها [2] في صورة النقض ظنا مع انتفاء الحكم قطعا ، والمقطوع به من وجهين راجح على ما هو مقطوع من وجه ومظنون من وجه .

          ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح مما لا يتجه على النقض على المظنة ، فلذلك كان لازما على المظنة دون الحكمة .

          فإن قيل : فلو فرض وجود الحكمة في صورة النقض قطعا فما المختار فيه ؟ قلنا : ذلك مما يمتنع وقوعه ، وبتقدير وقوعه فقد قال بعض أصحابنا : إنه لا التفات إليه مصيرا منه إلى أن التوسل إلى معرفة ذلك في آحاد الصور بخفائه وندرته مما يلزم منه نوع عسر وحرج ، ولا يلزم مثله في التوسل إلى معرفة الضوابط الجلية ، فكان من المناسب حط هذه الكلفة عن ورد الناس إلى الضوابط الجلية المشتملة على احتمال الحكم في الغالب .

          [ ص: 232 ] ولقائل أن يقول : البحث عن الحكمة في آحاد الصور هل هي موجودة قطعا ، وإن كان يفضي إلى العسر والحرج ؟ إلا أنا نعلم أن المقصود الأصلي من إثبات الأحكام ونفيها إنما هو الحكم والمقاصد ، فعلى تقدير وجود الحكمة في بعض الصور مماثلة لها في محل التعليل قطعا لو لم نقل بوجوب التعليل بها في غير محل التعليل لزم منه انتفاء الحكم مع وجود حكمته قطعا ، وذلك ممتنع كما يمتنع إثبات الحكم مع انتفاء حكمته قطعا فيما عدا الصورة النادرة ، وكذلك لو لم نقل بإلغائها عند تخلف الحكم عنها ، فيصح مع تيقنها فيلزم منه [3] إثبات الحكم بها مع الضابط مع كونها ملغاة قطعا .

          ولا يخفى أن محذور إثبات الحكم لحكمة ألغاها الشارع ، أو نفي الحكم مع وجود حكمته يقينا أعظم من المحذور اللازم للمجتهد من البحث عن الحكمة في آحاد الصور على ما لا يخفى .

          وعلى هذا يكون الكلام فيما إذا فرض وجود الحكمة في صورة النقض أزيد منها في محل التعليل يقينا ، لكن إن كان قد ثبت معها في صورة النقض حكم هو أليق بها بأن يكون وافيا بتحصيل أصل الحكمة وزيادة ، ولو رتب عليها في تلك الصورة الحكم المعلل كان فيه الإخلال بتلك الزيادة في صورة النقض ، فلا يكون ذلك نقضا للحكمة ولا إلغاء لها ، بل الواجب تخلف الحكم المعلل عنها وإثبات الحكم اللائق بها الوافي بتحصيل الزيادة لما فيه من رعاية أصل المصلحة وزيادتها ، فإنه أولى من رعاية أصل المصلحة وإلغاء الزيادة ، فإذا انتفاء الحكم في هذه الصورة لا يدل على إلغاء الحكمة بل على اعتبارها بأصلها وصفتها .

          ومثال ذلك ما إذا علل المستدل وجوب القطع قصاصا بحكمة الزجر .

          فقال المعترض : مقصود الزجر في القتل العمد العدوان أعظم ، ومع ذلك فإنه لا يجب به القطع ، فللمستدل أن يقول : الحكمة في صورة النقض وإن كانت أزيد منها في محل التعليل ، غير أنه قد ثبت معها في حكم هو أليق بها وهو وجوب القتل .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية