الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو أقر مرة حد : لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أنيسا أن يغدو على امرأة فإن اعترفت رجمها . وأمر عمر رضي الله عنه أبا واقد الليثي بمثل ذلك ، ولم يأمرا بعدد إقراره . وفي ذلك دليل أنه يجوز أن يقيم الإمام الحدود وإن لم يحضره " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اختلف الفقهاء في الإقرار الذي يجب به حد الزنا على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب الشافعي أنه يجب بإقراره مرة واحدة ، وهو قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .

                                                                                                                                            والثاني : وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه : أنه لا يجب إلا بإقرار أربع مرات في أربعة مجالس .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب مالك وابن أبي ليلى : لا تجب إلا بإقرار أربع مرات سواء كان في مجلس أو في مجالس : احتجاجا في اعتبار الأربع برواية أبي حنيفة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر بالزنا فرده ، ثم عاد فأقر بالزنا فرده ، ثم عاد فأقر بالزنا فرده ، ثم عاد رابعة فأقر بالزنا ، فسأل عنه قومه : هل تنكرون من عقله شيئا ؟ قالوا : لا . فأمر به فرجم في موضع قليل الحجارة ، فأبطأ عليه الموت ، فانطلق يسعى إلى موضع كثير الحجارة فرجموه [ ص: 207 ] حتى قتل فلما أمر برجمه في الرابعة دون ما تقدمها دل على أنها هي الموجبة لرجمه ، وأن الأربع كلها شروط فيه .

                                                                                                                                            وروى عامر بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال : أقبل ماعز بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس عنده ، حتى جلس بين يديه فأقر عنده بالزنا ، فأمر بطرده حتى لم ير ، ثم عاد فجلس بين يديه فأقر عنده بالزنا ، فأمر بطرده حتى لم ير ، ثم عاد فجلس بين يديه فأقر عنده بالزنا ، فأمر بطرده حتى لم ير ، ثم عاد الرابعة ، قال : فنهضت إليه فقلت : يا هذا إنك إن أقررت عنده الرابعة رجمك ، قال : فجاء حتى جلس بين يديه فأقر عنده بالزنا فأمر برجمه .

                                                                                                                                            قالوا : فقد صرح أبو بكر رضي الله عنه بمشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الرابعة هي الموجبة لرجمه فأقره ، فصار كقوله .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنه سبب يثبت حد الزنا فوجب أن يكون العدد من شرطه كالشهادة ، ولأن الزنا لما غلظ بزيادة الشهادة على سائر الشهادات ، وجب أن يغلظ بزيادة الإقرار على سائر الإقرارات .

                                                                                                                                            ودليلنا : حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا أنيس اغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " ، ولم يوقت له في اعترافها أربعا ، فغدا إليها فاعترفت فرجمها ، ولم ينقل أنها اعترفت أربعا ، فدل على ثبوته باعتراف المرأة الواحدة : لأنه لا يجوز أن يؤخر بيانه عن وقت الحاجة ولا يبيح رجمها بغير استحقاق .

                                                                                                                                            ولأنه قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا مخالف لهما في الصحابة فكان إجماعا .

                                                                                                                                            أما أبو بكر فأقر رجل بكر عنده بالزنا فجلده مائة وغربه عاما .

                                                                                                                                            وأما عمر فإن رجلا أتاه فقال : إن امرأتي زنت فأنفذ أبا واقد الليثي إليها ، فقال لها : زوجك قد اعترف عليك بالزنا ، وإنك لا تؤاخذين بقوله : لتنزع ، فلم تنزع ، فأمر عمر برجمها .

                                                                                                                                            ومن القياس : أن ما ثبت بالإقرار لم يعتبر فيه التكرار كسائر الحدود والحقوق ، ولأن ما لم يلزم فيه تكرار الإنكار لم يلزم فيه تكرار الإقرار كسائر الحدود ، ولأن رجلا لو قذف رجلا بالزنا ووجب عليه حد قذفه فاعترف المقذوف مرة واحدة صار كالمقر به أربعا في سقوط الحد عن قاذفه ، فوجب أن يصير كالأربع في وجوب الحد به : لأنه لا [ ص: 208 ] يجوز أن يصير في بعض الأحكام زانيا وفي بعضها غير زان ، ولأنه إقرار ثبت به حد القذف فوجب أن يثبت به حد الزنا كالأربع .

                                                                                                                                            ولأن الحقوق ضربان : حق الله سبحانه ، وحق للآدمي . وليس في واحد منهما ما يعتبر في الإقرار به التكرار ، فكان حد الزنا ملحقا بأحدهما ، ولم يجز أن يخرج عنهما .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن حديث " ماعز " في إقراره أربعا ، فمن أربعة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم توقف عن رجمه في المرة الأولى استثباتا لحاله واسترابة لجنونه : لأنه كان قصيرا أعضد أحمر العينين ناثر الشعر ، أقبل حاسرا فطرده تصورا لجنونه ، وأن العاقل لا يفضح نفسه ويتلفها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ، فإنه من يبد لنا صفحته نقم حد الله عليه ولذلك سأل قومه عن حاله ، وقال : أبه جنة ؟ وقال : استنكهوه . لأنه توهمه حين لم ير به جنة أن يكون سكران .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو كان الأربع معتبرا لكان الأول مؤثرا ، ولما استجاز أن يطرده ، وقد تعلق به لله تعالى حق .

                                                                                                                                            والثالث : أنه رجمه بعد أن استثبته في الخامسة ، وقال : " لعلك قبلت لعلك لمست ؟ " قال : بل جامعتها ، قال : " أولجت ذكرك في فرجها ، كالمرود في المكحلة والرشا في البئر ؟ " قال : نعم . فأقر برجمه في الخامسة ، وليست شرطا بإجماع ، فكذلك ما تقدمها .

                                                                                                                                            والرابع : أنه خبر خالف الأصول ، وخبر الواحد عندهم إذا خالف الأصول لم يعمل به ، وأما قول أبي بكر رضي الله عنه : " إنك إن أقررت الرابعة رجمك " فلأن حاله قد وضحت ، والاسترابة قد ارتفعت ، فصارت الرابعة هي الموجبة لزوال الاسترابة ، ولم تكن لاستكمال العدد : لأن أبا بكر رضي الله عنه قد جلد في أيامه ولم يعتبر عددا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الشهادة : فهو أن المعنى فيها أنه لما اعتبر فيها العدد في غير الزنا اعتبر في الزنا ، ولما لم يعتبر العدد في الإقرار بغير الزنا لم يعتبر في الإقرار بالزنا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بزيادة الشهادة فيه تغليظا : فهو أن الشهادة قد تختلف باختلاف الحقوق ، ولا توجب اختلاف الإقرار بها ، فكذلك في الزنا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية