الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                636 ص: وذهبوا في ذلك إلى ما حدثنا محمد بن عمرو بن يونس السوسي ، قال: نا يحيى بن عيسى، قال: نا الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة: " أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي -عليه السلام- فقالت: يا رسول الله، إنني أستحاض فلا ينقطع عني الدم. فأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي؛ وإن قطر الدم على الحصير قطرا". .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي ذهب هؤلاء الآخرون، فيما ذهبوا إليه من ترك الصلاة أيام الأقراء والاغتسال والتوضؤ لكل صلاة، إلى حديث عروة ، عن عائشة -رضي الله عنها- وإسناده على شرط مسلم .

                                                وأخرجه ابن ماجه: ثنا علي بن محمد وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: ثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة قالت: "جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي -عليه السلام- [فقالت]: يا رسول الله، [ ص: 339 ] إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: لا إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، وإن قطر الدم على الحصير".

                                                وأخرجه الدارقطني في "سننه": ثنا محمد بن موسى بن سهل البربهاري، ثنا محمد بن معاوية بن صالح، ثنا علي بن هاشم ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن عروة ، عن عائشة قالت: "أتت فاطمة بنت أبي حبيش النبي -عليه السلام- فقالت: يا رسول الله، إني استحضت فما أطهر فقال: ذري الصلاة أيام حيضتك، ثم اغتسلي، وتوضئي عند كل صلاة؛ وإن قطر الدم على الحصير".

                                                ثم قال الدارقطني: [تابعه] وكيع الخريبي وقرة بن موسى ومحمد بن ربيعة وسعيد بن محمد الوراق وابن نمير ، عن الأعمش فرفعوه، ووقفه حفص بن غياث وأبو أسامة وأسباط بن محمد، وهم أثبات.

                                                ثم سرد الدارقطني سند المتابعين، وسند الواقفين.

                                                قلت: هذا الحديث صحيح عند الطحاوي؛ لأن رواته من رجال صحيح مسلم، ما خلا شيخه.

                                                وقال البيهقي: وأشهر حديث روى فيه العراقيون - يعني في حكم المستحاضة - ما أخبرنا أبو علي الروذباري، قال: أنا أبو بكر بن داسة، قال: ثنا أبو داود، قال: نا عثمان بن أبي شيبة، قال: نا وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة قالت: "جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي -عليه السلام- " فذكر خبرها، قال: "ثم اغتسلي، ثم توضئي لكل صلاة، وصلي" [قال الإمام أحمد]: وزاد فيه

                                                [ ص: 340 ] غيره عن وكيع: "وإن قطر الدم على الحصير" وهذا حديث ضعيف، ضعفه يحيى بن سعيد القطان ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين، وقال سفيان الثوري: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئا.

                                                وقال أبو داود: حديث الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ضعيف، ورواه حفص بن غياث عن الأعمش فوقفه على عائشة، وأنكر أن يكون مرفوعا، ووقفه أيضا أسباط عن الأعمش، ورواه أيوب أبو العلاء ، عن الحجاج بن أرطأة ، عن أم كلثوم، عن عائشة، وعن ابن شبرمة ، عن امرأة مسروق، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- قال أبو داود: حديث أيوب أبي العلاء ضعيف لا يصح. انتهى.

                                                قلت: حاصل الكلام أنهم عللوا الحديث من جهة المتن ومن جهة الإسناد، أما من جهة المتن فإنهم أنكروا أن يكون فيه الوضوء لكل صلاة، وأما من جهة الإسناد فإنهم أنكروا أن يكون هذا الحديث مرفوعا.

                                                والجواب عن ذلك: أنه إن كان حفص بن غياث وأسباط روياه موقوفا على عائشة، فكذلك رواه وكيع وسعيد بن محمد الوراق وعبد الله بن نمير والجريري مرفوعا، فترجح رواياتهم؛ لأنها زيادة ثقة، ولأنهم أكثر عددا، وتحمل رواية من وقفه على عائشة أنها سمعته من النبي -عليه السلام- فروته مرة، وأفتت به مرة أخرى.

                                                فإن قيل: قال أبو داود: ودل على ضعف [حديث] حبيب هذا أن رواية الزهري عن عروة عن عائشة، قالت: "فكانت تغتسل لكل صلاة" في حديث المستحاضة.

                                                [ ص: 341 ] و: (لذا علل البيهقي في تضعيف حديث حبيب).

                                                قلت: هذا لا يدل على ضعف حديث حبيب؛ لأن الاغتسال لكل صلاة في رواية الزهري مضاف إلى فعلها، ويحتمل أن يكون اختيارا منها، بل الظاهر أنها فعلته تطوعا كما ذكرنا تحقيقه، والوضوء لكل صلاة في حديث حبيب مروي عنه -عليه السلام-، ومضاف إليه وإلى أمره، فافهم.

                                                فإن قلت: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة؛ لأن سفيان الثوري وغيره قالوا: لم يسمع حبيب من عروة شيئا.

                                                قلت: ادعى مسلم الاتفاق على أنه يكفي إمكان اللقيا في ثبوت السماع، وحبيب لا ينكر لقاؤه عروة؛ لروايته عمن هو أكبر من عروة وأجل وأقدم موتا، وقال أبو عمر: لا نشك أنه أدرك عروة .

                                                وقال أبو داود في كتاب "السنن" وقد روى حمزة الزيات ، عن حبيب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة حديثا صحيحا انتهى كلامه.

                                                وهذا يدل ظاهرا على أن حبيبا سمع من عروة، وهو مثبت، فيقدم على ما زعمه الثوري لكونه نافيا.

                                                والحديث الذي أشار إليه أبو داود هو أنه -عليه السلام- كان يقول: "اللهم عافني في جسدي وعافني في بصري" الحديث، ورواه الترمذي قال: حسن غريب.

                                                ثم اعلم أنه قد روى هذا الحديث - أعني حديث فاطمة بنت حبيش - غير حبيب عن عروة، ورواه غير عروة عن عائشة، خرجه الطحاوي على ما يأتي، وغيره أيضا من المصنفين.

                                                [ ص: 342 ] وذكر ابن رشد في "قواعده" حديث عائشة: "جاءت فاطمة... " إلى آخره، ثم قال: وفي بعض رواياته: "وتوضئي لكل صلاة"، وصحح قوم من أهل الحديث هذه الزيادة.

                                                وقال في موضع آخر: صححها أبو عمر بن عبد البر، وجاء أيضا في حديث عثمان الكاتب ، عن ابن أبي مليكة، في قصة فاطمة بنت أبي حبيش: "لتدع الصلاة في كل شهر أيام قرئها، ولتغتسل لكل يوم غسلا واحدا، ثم الطهور عند كل صلاة".

                                                فإن قيل: قال البيهقي في "السنن": وعثمان ليس بالقوي، وتابعه الحجاج بن أرطاة وليس بالقوي.

                                                وقال في باب المعتادة لا تميز بين الدمين: حديث عثمان الكاتب ضعيف.

                                                قلت: خالف في ذلك شيخه الحاكم؛ فإنه أخرج حديث عثمان هذا في المستدرك وقال: صحيح لم يخرجاه بهذا اللفظ، وعثمان الكاتب بصري ثقة عزيز الحديث.

                                                ثم اعلم أن الأئمة الأربعة ومن تابعهم استدلوا بهذا الحديث على أن المستحاضة تترك الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي، ولكن اختلفوا [في] أن وضوءها للصلاة أو لوقت الصلاة؟

                                                [ ص: 343 ] فعند أبي حنيفة وأصحابه: لوقت الصلاة، حتى لو توضأت في أول الوقت فلها أن تصلي ما شاءت من الفرائض والنوافل، ما لم يخرج الوقت؛ وإن دام السيلان.

                                                وعند الشافعي: إن كان العذر من أحد السبيلين، كالاستحاضة وسلس البول وخروج الريح، تتوضأ لكل فرض وتصلي ما شاءت من النوافل.

                                                وقال مالك، في أحد قوليه: تتوضأ لكل صلاة.

                                                كذا في "البدائع".

                                                وفي "المغني" لابن قدامة: وأكثر أهل العلم على أن الغسل عند انقضاء الحيض، ثم الوضوء لكل صلاة يجزئها، وقد قيل: لا يجب عليها الوضوء لكل صلاة، وهو قول مالك وربيعة وعكرمة؛ لأن ظاهر حديث هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة، في قصة فاطمة بنت أبي حبيش، الغسل فقط؛ فإنه قال: "فاغتسلي وصلي"، ولم يقل: "وتوضئي لكل صلاة"، وحديث الترمذي فيه: "وتوضئي لكل صلاة"، وهذه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة. ثم قال: وحكم طهارة المستحاضة حكم التيمم، في أنها إذا توضأت في الوقت صلت صلاة الوقت، وقضت الفوائت، وتطوعت، حتى يخرج الوقت، نص أحمد على هذا.

                                                ومذهب الشافعي أنها لا تجمع بطهارتها بين فرضين؛ فلا تقضي فائتة، ولا تجمع بين صلاتين، كقولهم في التيمم وحجته قوله -عليه السلام-: "توضئي لكل صلاة" ولنا أنه روي في بعض ألفاظ حديث بنت أبي حبيش: "توضئي لوقت كل صلاة".

                                                وفي "التمهيد": كان عروة يفتي بأن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، وذلك عند مالك على الاستحباب لا على الإيجاب، وروى مالك في موطئه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلا واحدا، ثم تتوضأ [ ص: 344 ] بعد ذلك لكل صلاة"، قال مالك: الأمر عندنا على حديث هشام بن عروة عن أبيه، وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك، وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب: ربيعة وعكرمة وأيوب وطائفة.

                                                وقال البيهقي في "المعرفة": قال الشافعي في كتاب الحيض: قال يعني بعض العراقيين : أما إنا روينا أن النبي -عليه السلام- أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة قال الشافعي: نعم قد رويتم ذلك، وبه نقول، قياسا على سنة رسول الله -عليه السلام- في الوضوء مما خرج من دبر أو ذكر أو فرج، ولو كان هذا محفوظا كان أحب إلينا من القياس.

                                                فأشار الشافعي إلى أن الحديث الذي روي فيه غير محفوظ.

                                                قلت: يلزم على قياس الشافعي أن لا تختص المستحاضة بفرض واحد كالوضوء مما يخرج من أحد السبيلين.

                                                فإن قال: الفرق أن حدث المستحاضة بعد الفرض موجود قائم.

                                                قلنا: فوجب أن لا [تصلي] بعد ذلك نافلة.

                                                وفي كون الشافعي لم يجوز لها أن تصلي فرضين بطهارة واحدة؛ دليل على أنه عمل بحديث المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، لا بالقياس على ما ذكر، ثم إنه خصص العموم وجوز من النوافل ما شاءت، وجعل التقدير: لكل صلاة فرض، فلما أضمر ذلك، فلخصمه أن يضمر الوقت، ويقول: التقدير لوقت كل صلاة، كقوله -عليه السلام- "إن للصلاة أولا وآخرا، وأينما أدركتني الصلاة تيممت" وذلك لأن ذهاب الوقت عهد مبطلا للطهارة، كذهاب مدة المسح. والخروج من الصلاة لم يعهد مبطلا للطهارة، وكذا الحدث يعم الفريضة والنافلة، وكذا القياس الذي ذكره الشافعي، فعلم أنه لم يطرد القياس.

                                                وقال ابن حزم: قول مالك في هذا الباب خطأ لأنه خلاف للحديث الوارد في

                                                [ ص: 345 ] ذلك، وقول الشافعي وأحمد كذلك خطأ؛ لأن من المحال الممتنع في الدين الذي لم يأت به قط نص ولا دليل أن يكون إنسان طاهرا إن أراد أن يصلي تطوعا، ومحدثا غير طاهر في ذلك الوقت بعينه إن أراد أن يصلي فريضة، فإن كانت طاهرة فلها أن تصلي،

                                                ما شاءت من الفرائض والنوافل، وإن كانت محدثة فما يحل لها أن تصلي لا نافلة ولا فريضة.

                                                وقول أبي حنيفة فاسد أيضا؛ لأنه مخالف للخبر الذي تعلق به، ومخالف للمعقول والقياس، وما وجدنا قط طهارة تنتقض بخروج وقت، وتصح بكون الوقت قائما.

                                                قلت: تشنيعه على أبي حنيفة باطل؛ لأن قوله غير مخالف للخبر الذي تعلق به، فإن في بعض ألفاظه: "توضئي لوقت كل صلاة".

                                                على ما ذكره صاحب "المغني".

                                                وكذا قوله: مخالف للمعقول والقياس باطل أيضا؛ لأن ذهاب الوقت قد عهد مبطلا للطهارة، كذهاب مدة المسح، فكيف يشنع ويقول: وما وجدنا قط طهارة تنتقض بخروج وقت؟!




                                                الخدمات العلمية