الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                441 442 ص: وإن احتجوا في ذلك بما حدثنا علي بن معبد قال: نا يعقوب بن إبراهيم ابن سعد، قال: ثنا أبي ، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن مسلم بن [ ص: 96 ] عبيد الله بن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن زيد بن خالد ، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "من مس فرجه . فليوضأ".

                                                حدثنا ابن أبي داود، قال: نا عياش الرقام ، قال: نا عبد الأعلى ، عن ابن إسحاق ...... فذكر بإسناده مثله.

                                                قيل لهم: أنتم لا تجعلون محمد بن إسحاق حجة في شيء إذا خالفه فيه مثل من خالفه في هذا الحديث، ولا إذا انفرد، ونفس هذا الحديث منكر، وأخلق به أن يكون غلطا؛ لأن عروة حين سأله مروان عن مس الفرج، فأجابه من رأيه ألا وضوء فيه، فلما قال له مروان ، عن بسرة ، عن النبي - عليه السلام - ما قال، قال له عروة: : ( ما سمعت به. وهذا بعد موت زيد بن خالد بما شاء الله، فكيف يجوز أن ينكر عروة على بسرة ما قد حدثه إياه زيد بن خالد عن النبي - عليه السلام -؟!

                                                التالي السابق


                                                ش: أي إن احتج أهل المقالة الأولى في انتقاض الوضوء بمس الفرج بحديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - يقال: في جوابهم وجهان:

                                                الأول: أن يقال: إنكم لا تجعلون محمد بن إسحاق حجة في شيء؛ سواء خالفه أحد ، أو انفرد بروايته، ثم كيف تحتجون به هاهنا وقد قال البيهقي في كتاب "المعرفة": وروى الطحاوي حديث زيد بن خالد الجهني من جهة محمد بن إسحاق بن يسار، ثم أخذ في الطعن على ابن إسحاق وأنه ليس بحجة؛ ثم ذهب إلى أنه غلط وذكره إلى آخر ما ذكره الطحاوي، ثم قال: وددنا أن لو كان احتجاجه في مسائله بأمثال محمد بن إسحاق بن يسار، كيف وهو يحتج في كتابه بمن قد أجمع أهل العلم بالحديث على تضعيفه في الرواية؟

                                                قلت: فيا للعجب من هذا البيهقي، كيف يفهم كلام المحققين؟ فمتى طعن الطحاوي على ابن إسحاق حتى يقول: ثم أخذ في الطعن على ابن إسحاق؟ والذي ذكره الطحاوي ليس منه طعنا عليه، وإنما قال للخصم: أنتم لا تجعلون محمد بن إسحاق حجة.

                                                [ ص: 97 ] وهذا القول لا يستلزم الطعن منه عليه؛ وإنما تبين بذلك عسف الخصم، حيث يجعل محمد بن إسحاق حجة عند كون الحديث له، ويتركه ويطعن فيه عند كون الحديث عليه، ولئن سلمنا أنه طعن عليه؛ فليس هو مختصا به، ولا بأول من تكلم به فيه، فإن بعض السلف قبله قد طعنوا فيه كالإمام مالك حيث قال فيه: دجال من الدجاجلة.

                                                وقد قال الخطيب: وقد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأسباب منها: أنه كان يتشيع، وينسب إلى القدر، ويدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بمدفوع عنه.

                                                وقال الحافظ ابن الذهبي: والذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث صالح الحال صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة؛ فإن في حفظه شيئا.

                                                قلت: ولهذا لم يخرج له الشيخان، وإنما استشهد به البخاري، وروى له مسلم في المتابعات.

                                                وقول البيهقي: "كيف وهو يحتج بمن قد أجمع أهل العلم بالحديث على ضعفه في الرواية" تحامل منه وتعصب؛ حيث يقول قولا مجملا من غير بيان، فهلا بينه في صوره حتى ننظر فيها، ذلك ولئن سلمنا أنه احتج بمن هو ضعيف عند غيره فلا نسلم أن [1\ق122 –ب] ذلك عيب منه أو تقصير؛ لأنه ربما كان ذاك ثقة عنده، ألا ترى إلى خلق كثير قد احتج بهم الشيخان مع أن غيرهما قد تكلموا فيهم، ولم يجعلوا مثل ذلك قادحا في الصحة، فكذلك الطحاوي؛ لأنه إمام في الحديث مثلهم، بل له زيادة فضيلة معرفة وجوه المناظرات وطرق استنباط الأحكام ونحوها.

                                                الوجه الثاني: أن هذا الحديث منكر بل الأجدر أن يكون غلطا، بيان ذلك: أن عروة أجاب مروان حين سأله عن مس الذكر بأنه لا وضوء فيه، فقال مروان: أخبرتني بسرة عن النبي - عليه السلام - أن فيه الوضوء. فقال له عروة: ما سمعت بهذا، حتى أرسل مروان إلى بسرة شرطيا فأخبرته، وكان ذلك بعد موت زيد بن خالد بما [ ص: 98 ] شاء الله، فكيف يجوز أن ينكر عروة على بسرة ما قد حدثه به زيد بن خالد عن النبي - عليه السلام - هذا مما لا يستقيم ولا يصح.

                                                وقال البيهقي في كتابه "المعرفة": هذا منه توهم -أراد أن الطحاوي وهم فيه- فلا ينبغي لأهل العلم أن يطعنوا في الأخبار بالتوهم، فقد بقي زيد بن خالد إلى سنة ثمان وسبعين من الهجرة، ومات مروان بن الحكم سنة خمس وستين، فيجوز أن يكون عروة لم يسمعه من أحد حين سأله مروان، ثم سمعه من بسرة، ثم سمعه بعد ذلك من زيد بن خالد الجهني، فرجع إلى روايتهما وقلد حديثهما.

                                                قلت: ليس هذا وهما من الطحاوي، بل الذي ينسبه إلى الوهم هو الذي وهم فيه، وكيف وهو إمام في التاريخ أيضا؟


                                                إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام.



                                                وقد اختلف العلماء من أهل التاريخ في وفاة زيد بن خالد الجهني، وفي مكان موته على ما نقله ابن الأثير في كتاب "معرفة الصحابة" فقال: توفي بالمدينة ، وقيل: بمصر ، وقيل: بالكوفة، وكانت وفاته سنة ثمان وسبعين وهو ابن خمس وثمانين، وقيل: مات سنة خمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وقيل: توفي في آخر أيام معاوية، وقيل: سنة اثنتين وسبعين وهو ابن ثمانين سنة والله أعلم.

                                                ويمكن أن يكون الصحيح في تاريخ وفاته سنة خمسين، ويكون قد ثبت ذلك عند الطحاوي، فيكون تاريخ وفاته متقدما على تاريخ وفاة مروان بخمسة عشرة سنة، وإنما وقف البيهقي على قول من قال بأن وفاة زيد بن خالد سنة ثمان وسبعين؛ ليتوسل به إلى الطعن على الطحاوي، وليس هذا دأب أهل الإنصاف، ولا من قصده إظهار الصواب.

                                                ثم إن الطحاوي أخرج حديث زيد بن خالد من طريقين:

                                                الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري ، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ... إلى آخره.

                                                [ ص: 99 ] وقد ذكرنا فيما مضى أن أحمد والبزار والطبراني قد أخرجوه .

                                                الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن عياش -بتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره شين معجمة- بن الوليد الرقام القطان أحد مشايخ البخاري ، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى الشامي القرشي البصري ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ... إلى آخره.

                                                قوله: "وأخلق به أن يكون غلطا" من صيغ التعجب، وقد عرف أن الموضوع له صيغتان: ما أفعله، وأفعل به. فالصيغة الثانية لفظها لفظ الأمر، ومعناها خبر، كقوله تعالى: أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا أي ما أسمعهم وأبصرهم، وحكي عن الزجاج أنه أمر حقيقة، وهو قول الفراء، واستحسنه الزمخشري وابن خروف ، ثم معنى "أخلق به" أي أجعله جديرا بأن يكون غلطا، من قولهم: فلان خليق بكذا أي جدير به، وقد خلق لذلك -بالضم- أي لاق له.




                                                الخدمات العلمية