الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أمر وفد ثقيف وإسلامها في شهر رمضان سنة تسع

قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف.

وكان من حديثهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يقبل إلى المدينة، فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما يتحدث قومه - : إنهم قاتلوك. وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم نخوة; للامتناع الذي كان منهم. فقال عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم - قال ابن هشام: من أبصارهم - وكان فيهم كذلك محببا مطاعا، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه; لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على علية له، وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله. فيزعم بنو مالك أنه قتله رجل منهم يقال له أوس بن عوف أخو بني سالم بن مالك، ويزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم من بني عتاب بن مالك يقال له وهي بن جابر، فقيل لعروة ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه.

ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا كما [ ص: 307 ] أرسلوا عروة، فكلموا عبد ياليل بن عروة بن عمير وكان في سن عروة بن مسعود، وعرضوا عليه ذلك فأبى أن يفعل، وخشي أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة، فقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا، فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فيكونون ستة، فبعثوا مع عبد ياليل: الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب ، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب. ومن بني مالك: عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان أخا بني ياسر، وأوس بن عوف أخا بني سالم، ونمير بن خرشة بن ربيعة أخا بين الحارث. فخرج بهم ، فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة. ألفوا بها المغيرة بن شعبة، فاشتد ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر، فقال له: أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه ففعل، فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم عليه.

ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد كما يزعمون، فكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتتبوا كتابهم، وكان خالد الذي كتبه ، وكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد، حتى أسلموا: وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهرا واحدا بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى، وإنما يريدون بذلك - فيما يظهرون - أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها، حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب ، والمغيرة بن شعبة فيهدماها، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه.

[ ص: 308 ] فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابهم، أمر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان من أحدثهم سنا، وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن، فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب ، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: ادخل أنت على قومك. وأقام أبو سفيان. بماله بذي الهرم، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها ليضربها بالمعول، وقام قومه دونه بنو معتب خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها. ويقول أبو سفيان ، - والمغيرة يضربها بالفأس - : واها لك واها لك. فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها، أرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع، ومالها من الذهب والفضة والجزع.

وقد كان أبو مليح بن عروة ، وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة، يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شيء أبدا فأسلما، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: توليا من شئتما، فقالا: نتولى الله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وخالكما أبا سفيان بن حرب. فقالا: وخالنا أبا سفيان، فلما أسلم أهل الطائف ووجه أبا سفيان ، والمغيرة إلى هدم الطاغية، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو مليح بن عروة أن يقضي عن أبيه عروة دينا كان عليه من مال الطاغية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقضه، وعروة ، والأسود أخوان لأب وأم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأسود مات مشركا. فقال قارب: يا رسول الله! لكن تصل مسلما ذا قربة - يعني نفسه - وإنما الدين علي، وإنما أنا الذي أطلب به، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضي دين عروة ، والأسود من مال الطاغية، فقضى.

وكان كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لهم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي [ ص: 309 ] رسول الله إلى المؤمنين، إن عضاه وج وصيده لا يعضد، من وجد يفعل شيئا من ذلك، فإنه يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، وأن هذا أمر النبي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتب خالد بن سعد بن العاص بأمر الرسول محمد بن عبد الله فلا يتعده أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.


التالي السابق


الخدمات العلمية