الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
278 - " أخاف على أمتي من بعدي ثلاثا: ضلالة الأهواء؛ واتباع الشهوات في البطون؛ أو الفروج؛ والغفلة بعد المعرفة " ؛ الحكيم البغوي ؛ وابن منده ؛ وابن قانع ؛ وابن شاهين ؛ وأبو نعيم ؛ الخمسة في كتب الصحابة؛ عن أفلح.

التالي السابق


(أخاف على أمتي من بعدي) ؛ بين به أن ذلك لا يقع في حياته؛ فإن وجوده بين أظهرهم أمان لهم من ذلك؛ (ثلاثا) ؛ من الخصال؛ (ضلالة الأهواء) ؛ أي: إضلال أهوية نفوسهم لهم؛ وقد يراد بها خصوص البدع؛ والتعصب للمذاهب الباطلة؛ و" الضلال" ؛ ضد الرشاد؛ وفي الصحاح: " أضله" : أهلكه؛ و" الأهواء" ؛ مفرده " هوى" ؛ مقصور؛ وهو عرض نفساني ناشئ عن شهوة نفس في غير أمر الله؛ كذا ذكره بعضهم؛ وأوجز القاضي فقال: رأي يتبع الشهوة؛ وقال الراغب : و" الضلال" : أن يقصد لاعتقاد الحق؛ أو فعل الجميل؛ أو قول الصدق؛ فيظن بتقصيره؛ وسوء تصرفه؛ فيما كان باطلا أنه حق؛ فاعتقده؛ أو فيما هو قبيح أنه جميل؛ وليس بجميل؛ ففعله؛ أو فيما كان كذبا أنه صدق؛ فقاله؛ و" الجهل" ؛ عام في كل ذلك؛ (واتباع الشهوات) ؛ جمع " شهوة" ؛ قال الحراني : وهي نزوع النفس إلى محبوب لا تتمالك عنه؛ وقال في الكشاف: طلب النفس اللذة؛ (في البطون؛ والفروج) ؛ بأن يصير الواحد كالبهيمة؛ قد عكف همه على بطنه؛ وفرجه؛ لا يخطر بباله حقا؛ ولا باطلا؛ ولا يفكر في عاقبة أمره؛ عاجلا؛ ولا آجلا؛ وأنشد بعضهم:


تجنب الشهوات واحـ ... ـذر أن تكون لها قتيلا

فلرب شهوة ساعة
... قد أورثت حزنا طويلا



وخصهما لأنهما مرجع جميع الشهوات؛ قال الراغب : وإنما خاف على أمته الشهوات لأنها أقدم القوى وجودا في الإنسان؛ وأشدها به تثبيتا؛ وأكثرها تمكنا؛ فإنها تولد معه؛ وتوجد فيه؛ وفي الحيوان الذي هو جنسه؛ بل وفي النبات؛ الذي هو جنس جنسه؛ ثم توجد فيه قوة الحمية؛ ثم آخرا توجد فيه قوة الفكر والنطق من التمييز؛ ولا يصير الإنسان متميزا عن جملة البهائم؛ متخلصا من أسر الهوى؛ إلا بإماتة الشهوة البهيمية؛ أو بقهرها؛ وقمعها؛ إن لم تمكن إماتتها؛ فهي التي تضره؛ وتغره؛ وتصرفه عن طرق الآخرة؛ ومتى قمعها؛ أو أماتها؛ صار حرا نقيا؛ فتقل حاجاته؛ ويصير غنيا عما في يد غيره؛ سخيا بما في يده؛ محسنا في معاملته؛ لكن هنا شيء يجب التنبيه به؛ وهو أن الشهوة إنما تذم إن أفرطت وأهملها صاحبها حتى ملكت القوى؛ أما إذا أدبت؛ فهي المبلغة للسعادة؛ حتى لو لم تكن لما أمكن الوصول إلى الآخرة؛ وذلك لأنه لا وصول إليها إلا بالعبادة؛ ولا سبيل إليها إلا بالحياة؛ ولا سبيل إليها إلا بحفظ البدن؛ ولا يمكن إلا بإعادة ما تحلل منه؛ ولا يمكن إلا بتناول الغذاء؛ ولا يمكن إلا بالقوة الشهوية؛ فالأمر محتاج إليها؛ ومقتضى الحكمة إيجادها؛ وتزيينها؛ زين للناس حب الشهوات ؛ لكن هي كعدو تخشى مضرته من وجه؛ و[يرجى] نفعه من وجه؛ ومع عداوته لا يستغنى عنه؛ فحق العاقل أن يأخذ نفعه؛ ولا يسكن إليه؛ قال: [ ص: 203 ]


ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد



(والغفلة بعد المعرفة) ؛ أي: إهمال الطاعة بعد معرفة وجوبها؛ أو ندبها؛ هذا في حق العوام؛ أما في حق الخواص فالالتفات إلى غير الله؛ حتى بمجرد الدعوى؛ أو العجب؛ أو الركون إلى ما ظهر؛ من مبادئ اللطف؛ وذلك هو المكر الخفي؛ الذي لا يقدر على التحرز منه إلا ذو القدم الراسخ؛ قال الغزالي: وإنما كانت الغفلة من أعظم المصائب؛ لأن كل نفس من العمر جوهرة نفيسة؛ لا خلف لها؛ ولا بدل منها؛ لصلاحيتها لأن توصل إلى سعادة الأبد؛ وتبعد من شقاوة الأبد؛ فإذا ضيعته في الغفلة فقد خسرت خسرانا مبينا؛ وإن صرفته للمعصية هلكت هلاكا فاحشا؛ قال الحراني : و" الغفلة" : فقد الشعور بما حقه أن يشعر به؛ وأراد بأهل الأهواء البدع؛ كما تقرر؛ وبدأ بها إشارة إلى أنها أخوف الثلاثة؛ وأضرها؛ إذ هي مع كونها داعية لأصحابها إلى النار؛ موقعة للعداوة؛ مؤدية إلى التقاطع؛ وإنما حدث التباين والفرق بسبب ذلك؛ حتى أدى إلى أن بعض تلك الفرق سب الشيخين؛ ولعنهما؛ وتعصب كل فريق فضلوا؛ وأضلوا؛ وتلك أمة قد خلت؛ لها ما كسبت؛ وعليها ما اكتسبت؛ وقيل: لما نزل قوله (تعالى): ومن يغفر الذنوب إلا الله ؛ صاح إبليس؛ ودعا بالويل والثبور؛ فجاءته جنوده؛ وقالوا: ما بال سيدنا؟ قال: نزلت آية لا يضر بعدها آدميا ذنب؛ فقالوا: نفتح لهم باب الأهواء؛ فلا يتوبون؛ ففرح بذلك؛ وقال الغزالي: قال الحسن: بلغنا أن إبليس قال: سولت لأمة محمد المعاصي فقطعوا ظهري بالاستغفار؛ فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون منها؛ وهي الأهواء؛ قال الغزالي - رحمه الله (تعالى) -: وصدق الملعون؛ فإنهم لا يعلمون أن ذلك من الأسباب التي تجر إلى المعاصي؛ فكيف يستغفرون؟! وقال الجنيد: لو أقبل عارف على الله (تعالى) ألف سنة؛ ثم أعرض عنه لحظة؛ كان ما فاته أكثر مما ناله؛ وقال الغزالي: قد نظر الحكماء فردوا مصائب العالم ومحنه إلى خمس: المرض في الغربة؛ والفقر في الشيب؛ والموت في الشباب؛ والعمى بعد البصر؛ والغفلة بعد المعرفة؛ قال: وأحسن منه قول القائل:


لكل شيء إذا فارقته عوض ... وليس لله إن فارقت من عوض



(تنبيه) : قال في المناهج: الغفلة داء عظيم؛ ينشأ عنه مضار دينية؛ ودنيوية؛ وعرفت في اصطلاح الصوفية بأنها غشاوة وصدأ يعلو مرآة القلب؛ يمنعه من التيقظ لما يقرب من حضرة الرب؛ ومداواته أن يعلم أنه غير مغفول عنه؛ ويلحظ قوله (تعالى): وما ربك بغافل عما تعملون ؛ ويعلم أنه يحاسب على الخطرة؛ والهم؛ أي: المقترنة بالتصميم؛ فمن تحقق بهذا؛ وراعى أوقاته؛ وزان أحواله؛ زالت عنه الغفلة.

(الحكيم) ؛ أبو جعفر ؛ محمد الترمذي ؛ ( والبغوي ) ؛ أبو القاسم ؛ ( وابن منده ) ؛ عبد الله ؛ ( وابن قانع ) ؛ عبد الباقي؛ ( وابن شاهين ) ؛ عمر بن أحمد ؛ له زهاء ثلاثمائة مؤلف؛ ( وأبو نعيم ) ؛ الحافظ أحمد ؛ المشهور؛ (الخمسة؛ في كتاب الصحابة؛ عن أفلح) ؛ بفتح الهمزة؛ وسكون الفاء؛ وآخره مهملة؛ مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو الذي قال له المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد رآه ينفخ إذا سجد: " ترب وجهك" ؛ ذكره ابن الأثير وغيره؛ وأفلح في الصحابة متعدد؛ وهذا هو المراد؛ لكن لو ميزه لكان أولى؛ قال في الأصل: وسنده ضعيف.



الخدمات العلمية