الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ولو ادعى عينا في يد رجل أنه له وقال الذي هو في يديه أودعنيه فلان أو أعارنيه أو وكلني بحفظه لم يخرج من خصومة المدعي إلا أن يقيم البينة على ما قال عندنا وقال ابن أبي ليلى رحمه الله يخرج من خصومته بمجرد قوله من غير بينة وقال ابن شبرمة لا يخرج من خصومته وإن أقام البينة على ما قال أما ابن أبي ليلى رحمه الله فإن كلام ذي اليد إقرار منه بالملك للغائب والإقرار يوجب الحق بنفسه لقوله تعالى { بل الإنسان على نفسه بصيرة } ولأنه لا تهمة فيما يقر به على نفسه فيثبت ما أقر به بنفس الإقرار ويتبين أن يده يد حفظ لا يد خصومة والدليل على صحة هذه القاعدة أن من أقر بعين لغائب ثم أقر به لحاضر فرجع الغائب وصدقه يؤمر بالتسليم إليه وكذلك لو أقر لغيره بشيء ثم مرض فصدقه المقر له كان إقراره إقرار صحة وأما ابن شبرمة رحمه الله فقال إنه بهذه البينة يثبت الملك للغائب وهو ليس بخصم في إثبات الملك لغيره ; لأنه لا ولاية لأحد على غيره في إدخال شيء في ملكه بغير رضاه ثم خروجه عن الخصومة في ضمن إثبات الملك لغيره فإذا لم يثبت ما هو الأصل لا يثبت ما في ضمنه كالوصية بالمحاباة إذا ثبت في ضمن البيع فيبطلان البيع بطلب الوصية ولنا أن هذه البينة تثبت أمرين أحدهما الملك للغائب والحاضر ليس بخصم فيه والثاني دفع خصومة المدعي عنه وهو خصم في ذلك فكانت مقبولة فيما وجدت فيكون خصما فيه كمن وكل وكيلا بنقل امرأته أو أمته وقامت البينة أن الزوج طلقها ثلاثا وأن المولى أعتقها تقبل هذه البينة في قصر يد الوكيل عنها ولا تقبل في وقوع الطلاق والعتاق ما لم يحضر الغائب وهذا ; لأن مقصود ذي اليد ليس هو إثبات الملك للغائب إنما مقصوده إثباته أن يده يد حفظ وليست بيد خصومة

وفي هذا المدعي خصم له فيجعل إثباته عليه بالبينة بمنزلة إقرار خصمه به ، وهذا بخلاف ما إذا ادعى غصبا على ذي اليد [ ص: 38 ] حيث لا تندفع الخصومة عنه بهذه البينة ; لأن هناك إنما صار خصما بدعوى الفعل عليه دون اليد فأما في الملك المطلق إنما صار خصما بيده .

( ألا ترى ) أن دعوى الغصب مسموعة على غير ذي اليد ودعوى الملك غير مسموعة فإذا أثبت أن يد غيره التحق في الحكم بما ليس في يده فلهذا قلنا إن بمجرد قوله قبل إقامة البينة لا تندفع الخصومة عنه ; لأن المدعي استحق عليه الجواب فصار هو خصما له بظهور الشيء في يده فلا يملك إسقاطه بمجرد قوله وهو لا يثبت إقراره بالبينة كما زعم هو إنما يثبت عليه إسقاط حق مستحق عليه عن نفسه وهو جواب الخصم وعن أبي يوسف رحمه الله إن كان ذو اليد رجلا معروفا بالحيل لم تندفع الخصومة عنه بإقامة البينة وإن كان صالحا تندفع الخصومة عنه رجع إلى هذا حين ابتلي بالقضاء وعرف أحوال الناس فقال قد يحتال المحتال ويدفع ماله إلى من يريد شراء ويأمر من يودعه علانية حتى إذا ادعاه إنسان يقيم البينة على أنه مودع ليدفع الخصومة عن نفسه .

ومقصوده من ذلك الإضرار بالمدعي ليتعذر عليه إثبات حقه بالبينة فلا تندفع الخصومة عنه إذا كان متهما بمثل هذه الحيلة فإن شهد شهود ذي اليد أنه أودعه رجل لا يعرفه لم تندفع الخصومة عنه فلعل ذلك الرجل هو الذي حضر ينازعه وليس في هذه الشهادة ما يوجب دفع الخصومة والثاني أن الخصومة إنما تندفع عن ذي اليد إذا حوله إلى غيره بالبينة والتحويل إنما يتحقق إذا أحاله على رجل يمكنه اتباعه ليخاصمه فإذا أحاله إلى مجهول ولا يمكنه اتباع المجهول كان ذلك باطلا لا يجوز وإن قال الشهود أودعه رجل نعرفه بوجهه إذا رأيناه ولا نعرفه باسمه ونسبه فعلى قول محمد رحمه الله لا تندفع الخصومة عنه وعند أبي حنيفة رحمه الله تندفع الخصومة عنه ذكره في الجامع وجه قول محمد رحمه الله أنه أحاله على مجهول لا يمكنه اتباعه ليخاصمه فكان هذا بمنزلة قولهم أودعه رجل لا نعرفه وهذا ; لأن المعرفة بالوجه لا تكون معرفة على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنه قال لرجل أتعرف فلانا ؟ فقال نعم قال صلى الله عليه وسلم هل تعرف اسمه قال لا قال صلوات الله عليه إذا لا تعرفه } .

التالي السابق


الخدمات العلمية