الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. قال أمة ولدت غلاما فأقر المولى أن هذا الولد من زوج حر أو عبد معروف فإن صدقه المقر له أو كان ميتا أو غائبا ، ثم ادعى المولى أنه ابنه عتق بدعواه لإقراره بحريته ، ولا يثبت نسبه منه ; لأنه ثابت من المقر له بحكم إقراره وعند التصديق غير مشكل ، وعند غيبته ، وهو موقوف على حقه فلا يملك أن يدعيه على نفسه ، وإن كان المقر له حاضرا فكذبه ، ثم ادعاه المقر بعد ذلك لنفسه قال أبو حنيفة رحمه الله لا يثبت نسبه منه .

وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يثبت نسبه منه ; لأن إقرار المقر قد بطل بتكذيب [ ص: 112 ] المقر له وبقي الولد محتاجا إلى النسب فإذا ادعاه المولى في حال حاجته وليس فيه إبطال حق غيره يثبت منه .

( ألا ترى ) أن المشتري للعبد إذا أقر بالولاء للبائع ، وكذبه البائع ، ثم ادعاه لنفسه ثبت الولاء منه والولاء بمنزلة النسب في أنه لا يحتمل الإبطال بعد ثبوته ، ثم هناك بالتكذيب يبطل إقراره لغيره ويصير كأن لم يكن فكذلك هنا وأبو حنيفة رحمه الله يقول : في كلامه الأول إقرار بشيئين أحدهما : ثبوت النسب من الغير ، والآخر : خروجه من دعوى هذا النسب أصلا ، وبتكذيب المقر له إنما يبطل ما هو من حقه فأما ما لا حق له فيه لا يبطل الإقرار فيه بتكذيب ، وخروج المقر من دعوى هذا النسب ليس بحق للمقر له فيبقى الحال فيه بعد التكذيب على ما كان قبله والدليل عليه أن بتكذيبه لا يبطل الإقرار ; لأن النسب مما لا يحتمل الإبطال أصلا بل بقي موقوفا على حقه حتى لو ادعاه ثبت منه فلا يملك المولى دعواه لنفسه في حال توقفه على حق الغير كولد الملاعنة إذا ادعى غير الملاعن نسبه لا يثبت منه ; لأنه يبقى موقوفا على حق الملاعن فيمنع ذلك صحة دعوة غيره ، وهذا بخلاف الولاء فإنه أثر من أثر الملك

وأصل الملك محتمل النقل من شخص إلى شخص فكذلك أثره إلا أنه إنما لا يحتمل الإبطال بعد تقرر سببه وهو العتق من واحد لعدم تصور ذلك السبب من غيره حتى لو تصور بأن كانت أمة فارتدت ، ولحقت بدار الحرب ، وسبيت فملكها رجل ، وأعتقها كان ولاؤها له دون الأول ، وهنا السبب كان موقوفا لم يتقرر للبائع ويحتمل تقرره من قبل المشتري بدعواه لنفسه فلهذا يثبت الولاء له بخلاف النسب ، ولو لم يقر المولى بشيء منه من ذلك ، ولكن أجنبي قال هذا الولد ابن المولى فأنكره المولى ، ثم اشتراه الأجنبي أو ورثه فادعى أنه ابنه عتق ، ولم يثبت نسبه منه في قول أبي حنيفة رحمه الله ، وهذا والأول سواء ; لأن الإقرار بالنسب في حق المقر يعتبر فيما لا يتناول حق المقر مالكا كان أو أجنبيا ، وكذلك لو شهد شاهدان بنسب لغيره ، ثم ادعى لنفسه ، ثم لم يثبت نسبه في قول أبي حنيفة رحمه الله لما بينا أن بشهادته لغيره قد أخرج نسبه من ذلك النسب فلا يمكنه أن يدعيه لنفسه بعد ذلك .

قال : ولو شهدت امرأة على صبي أنه ابن هذه المرأة ، ولم تقبل شهادتهما بالنسب ، ثم ادعت الشاهدة أن الصبي ابنها ، وأقامت على ذلك شاهدين لم يقبل ذلك منها ; لأنها بشهادتها قد أخرجت نفسها من دعوى نسب هذا الولد فإن الولد لا يثبت نسبه من المرأة إلا بانفصاله عنها وبعد ما زعمت أنه انفصل من المشهود لها لا يمكنها أن تدعي انفصاله منها ، والبينة على النسب بدون الدعوى لا تكون مقبولة ولو [ ص: 113 ] كبر الصبي فادعى أنه ابنها ، وأقام على ذلك شاهدين قضى القاضي بنسبه منها ; لأن الابن يدعي ما هو من حقه فإن نسبه ، وإن كان ثابتا إلى أبيه فإذا كان ثابت النسب من أمه يكون كريم الطرفين ، ولم يسبق منه ما يناقض ويمنعه من هذه الدعوى فوجب قبول بينته .

( ألا ترى ) أن الأم لو كانت جاحدة أصلا قبلت بينة الابن عليها فكذلك إذا كانت مناقضة في قولها .

وكذلك لو ادعى رجل صبيا في يد امرأة أنه ابنه وهي تنكر فشهد له شاهد فلم يقبل القاضي شهادته ، ثم إن الشاهد ادعى الصبي أنه ابنه ، وأن المرأة امرأته ، وأقام البينة على ذلك لم تقبل بينته ; لأن بشهادته صار مخرجا نفسه من هذه الدعوى ولو ادعته المرأة عليه ، وأقامت البينة قبلت بينتها ; لأنها تدعي ما هو من حقها فإن في ثبوت نسب ولدها من رجل دفع تهمة الزنا عنها حتى تكون محصنة ، ولم يسبق منها ما يمنعها من هذه الدعوى فوجب قبول بينتها عليه

التالي السابق


الخدمات العلمية