الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو أقام أحدهما [ ص: 59 ] البينة أنه اشتراها من فلان بثمن مسمى وهو يملكها وأقام الآخر البينة أن فلانا آخر وهبها له وقبضها منه وهو يومئذ يملكها قضي بها بينهما نصفين لأن كل واحد منهما ينتصب خصما عمن ملكه في إثبات الملك له أولا ثم لنفسه فالحجتان في إثبات الملك لهما سواء فيقضي بها بينهما نصفين وكذلك لو أقام ثالث البينة على الصدقة من ثالث مع القبض وأقام رابع البينة على إرثه من أبيه قضى بينهم أرباعا لما بينا أن كل واحد منهما خصم عمن ملكه فإن ( قيل ) إنما وضع المسألة في الدار فكيف يجوز القضاء بالهبة والصدقة في جزء منهما مشاعا ؟ ( قلنا ) قيل موضوع هذه المسألة في الدابة ولئن كان في الدار فكل واحد منهما أثبت استحقاقه في الكل إلا أنه لأجل المزاحمة يسلم له البعض ، وهذه المزاحمة بعد القبض فكان شيوعا طارئا وذلك لا يبطل الهبة والصدقة وهذا بخلاف ما إذا كانت الدار في يد رجل فأقام آخر البينة أنه اشتراها من فلان بثمن مسمى وتقابضا وأقام آخر البينة أن فلانا ذلك وهبها منه وقبضها قضى بها لصاحب الشراء ; لأنهما لا يحتاجان هنا إلى إثبات الملك لمن ملكها فإنه ثابت بتصادقهما وإنما الحاجة إلى إثبات سبب الملك عليه والشراء أقوى من الهبة ; لأنه عقد ضمان يوجب الملك في العوضين والهبة تبرع ; لأن الشراء يوجب الملك بنفسه والهبة لا توجب الملك إلا بعد القبض فكان ملك مدعي الشراء سابقا فلهذا جعل أولى وكذلك لو ادعى أحدهما الشراء والآخر الصدقة وادعى أحدهما الشراء والآخر الرهن فالشراء أولى لما بينا وإذا ادعى رجل الشراء وادعت المرأة أن فلانا ذلك تزوجها عليها فعلى قول أبي يوسف رحمه الله يقضى لكل واحد منهما بالنصف ثم للمرأة نصف القيمة على الزوج ويرجع المشتري بنصف الثمن إن كان نقده إياه وقال محمد رحمه الله يقضى بها لصاحب الشراء وللمرأة على الزوج قيمة الدابة .

وجه قول محمد رحمه الله أن تصحيح البينات والعمل بها واجب ما أمكن ; لأنها حجج وهنا يمكن تصحيح البينتين بأن يجعل الشراء سابقا فإن تسمية ملك الغير صداقا تسمية صحيحة موجبة لقيمة المسمى عند تعذر تسليم عينه فلهذا جعلنا الشراء سابقا ولأن الشراء مبادلة مال بمال موجب الضمان في العوضين والنكاح مبادلة مال بما ليس بمال غير موجب للضمان في المنكوحة ; فكان الشراء أقوى من هذا الوجه فجعل أولى وأبو يوسف رحمه الله يقول كل واحد من البينتين يثبت الملك لنفسهما فتتحقق المساواة بينهما في الاستحقاق كما في دعوى الشراءين ومن وجه النكاح أقوى ; لأن الملك في الصداق يثبت بنفس العقد متأكدا حتى لا يبطل بالهلاك قبل التسليم بخلاف [ ص: 60 ] الملك في المشترى ويجوز التصرف في الصداق قبل القبض بخلاف المشترى فإن لم يترجح جانب النكاح بهذا فلا أقل من المساواة وفيما قال محمد رحمه الله إثبات تاريخ لم يشهد به الشهود والتاريخ بين العقدين يثبت من غير حجة فإذا قضينا به بينهما نصفين استحق على المرأة نصف الصداق فيرجع بقيمة المستحق واستحق على المشتري نصف المبيع فيرجع بثمنه وإن ادعى أحدهما الرهن والقبض والآخر الهبة والقبض فالرهن أولى وذكر في كتاب الشهادات أن الهبة أولى في القياس .

ووجهه أن الهبة تفيد ملك العين والرهن لا يوجب فكان السبب الموجب لملك العين أقوى وجه الاستحسان أن الرهن عقد ضمان والهبة عقد تبرع وعقد الضمان أقوى من عقد التبرع ولأنه يثبت بدلين المرهون والدين والهبة لا تثبت إلا بدلا واحدا فكان الرهن أولى من الهبة وكذلك الرهن أولى من الصدقة والنكاح أولى من الهبة والصدقة ; لأنه يوجب الملك بنفسه كالشراء فأما الهبة والصدقة سواء ، حتى لو ادعى أحدهما الهبة والآخر الصدقة يستويان ; لأن كل واحد منهما تبرع لا يتم إلا بالقبض فإن ( قيل ) الصدقة لا رجوع فيها بخلاف الهبة فكانت الصدقة أقوى ( قلنا ) امتناع الرجوع لحصول المقصود بها وهو الثواب لا لقوة السبب ولو حصل المقصود بالهبة وهو صلة الرحم لم يرجع فيها أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية