الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  423 94 - حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال : حدثني مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا الحديث مطابق لأثر علي من حيث عدم النزول من النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مر بالحجر ديار ثمود في حال توجهه إلى تبوك ، ومن علي كذلك حيث لم ينزل لما أتى خسف بابل ، فأثر علي رضي الله تعالى عنه مطابق للترجمة للوجه الذي ذكرناه ، فكذلك حديث ابن عمر مطابق للترجمة لأن المطابق للمطابق للشيء مطابق لذلك الشيء ، وعدم نزولهما فيهما مستلزم لعدم الصلاة فيهما ، وعدم الصلاة لأجل الكراهة ، والباب معقود لبيان الكراهة فحصلت المطابقة ، فافهم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم أربعة ذكروا [ ص: 191 ] غير مرة ، وإسماعيل هو المشهور بابن أويس .

                                                                                                                                                                                  ومن لطائف إسناده : التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع ، والعنعنة في موضع ، وأن رواته كلهم مدنيون ، وأخرجه البخاري أيضا في المغازي عن يحيى بن بكر وفي التفسير عن إبراهيم بن المنذر عن معن بن عيسى عنه به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله ( هؤلاء المعذبين ) بفتح الذال المعجمة ؛ يعني ديار هؤلاء وهم أصحاب الحجر قوم ثمود ، وهؤلاء قوم صالح عليه السلام ، والحجر بكسر الحاء وسكون الجيم بلد بين الشام والحجاز . وعن قتادة فيما ذكره الطبري : الحجر اسم الوادي الذي كانوا به . وعن الزهري : هو اسم مدينتهم . وكان نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم بقوله : " لا تدخلوا " حين مروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجر في حال توجههم إلى تبوك . وللبخاري في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم . وقال المهلب : إنما قال صلى الله عليه وسلم " لا تدخلوا " من جهة التشاؤم بتلك البقعة التي نزل بها السخط ، يدل عليه قوله تعالى : وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم - في مقام التوبيخ على السكون فيها ، وقد تشاءم - صلى الله عليه وسلم - بالبقعة التي نام فيها عن الصلاة ورحل عنها ثم صلى ، فكراهية الصلاة في موضع الخسف أولى ، ثم استثنى من ذلك قوله : " إلا أن تكونوا باكين " فأباح الدخول فيه على وجه البكاء والاعتبار ، وهذا يدل على أن من صلى هناك لا تفسد صلاته لأن الصلاة موضع بكاء واعتبار .

                                                                                                                                                                                  وزعمت الظاهرية أن من صلى في بلاد ثمود وهو غير باك فعليه سجود السهو إن كان ساهيا ، وإن تعمد ذلك بطلت صلاته . قلت : هذا خلف من القول ؛ إذ ليس في الحديث ما يدل على فساد صلاة من لم يبك ، وإنما فيه خوف نزول العذاب به . وقال الخطابي : معنى هذا الحديث أن الداخل في ديار القوم الذين أهلكوا بخسف وعذاب إذا دخلها فلم يجلب عليه ما يرى من آثار ما نزل بهم بكاء ولم يبعث عليه حزنا إما شفقة عليهم وإما خوفا من حلول مثلها به فهو قاسي القلب قليل الخشوع غير مستشعر للخوف والوجل ، فلا يأمن إذا كان حاله كذلك أن يصيبه ما أصابهم وهو معنى قوله : " لا يصيبكم ما أصابهم " ، وهو بالرفع لأنه استئناف كلام . وقال بعضهم : والمعنى فيه لئلا يصيبكم ، قلت : الجملة الاستئنافية لا تكون تعليلا . وقال هذا القائل أيضا : ويجوز الجزم على أن " لا " ناهية ، وهو أوجه . قلت : هذا مبني على صحة الرواية بذلك ، وقوله : " وهو أوجه " غير موجه ؛ لأنه لم يبين وجهه ، وفي لفظ البخاري " أن يصيبكم " بفتح همزة " أن " ، وفيه إضمار تقديره : حذر أن يصيبكم أو خشية أن يصيبكم . وقال الكرماني : ( فإن قلت ) : كيف يصيب عذاب الظالمين لغيرهم " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ؟ قلت : لا نسلم الإصابة إلى غير الظالم ، قال تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وأما الآية الأولى فمحمولة على عذاب يوم القيامة ، ثم لا نسلم أن الذي يدخل موضعهم ولا يتضرع ليس بظالم لأن ترك التضرع فيما يجب فيه التضرع ظلم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستنبط منه ) : فيه دلالة على أن ديار هؤلاء لا تسكن بعدهم ولا تتخذ وطنا لأن المقيم المستوطن لا يمكنه أن يكون دهره باكيا أبدا ، وقد نهي أن يدخل دورهم إلا بهذه الصفة . وفيه المنع من المقام بها والاستيطان ، وفيه الإسراع عند المرور بديار المعذبين كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وادي محسر لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك ، وفيه أمرهم بالبكاء لأنه ينشأ عن التفكر في مثل ذلك ، وقال ابن الجوزي : التفكر الذي ينشأ عنه البكاء في مثل ذلك المقام ينقسم ثلاثة أقسام ؛ أحدها : تفكر يتعلق بالله تعالى إذ قضى على أولئك بالكفر . الثاني : يتعلق بأولئك القوم إذ بارزوا ربهم بالكفر والفساد . الثالث : يتعلق بالمار عليهم لأنه وفق للإيمان وتمكن من الاستدراك والمسامحة في الزلل .

                                                                                                                                                                                  وفيه الدلالة على كراهة الصلاة في موضع الخسف والعذاب ، والباب معقود عليه . .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية