الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  492 163 - حدثنا عمر بن حفص ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : حدثنا إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قال الأعمش : وحدثني مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة ذكر عندها ما يقطع الصلاة : الكلب ، والحمار ، والمرأة ، فقالت : شبهتمونا بالحمر ، والكلاب ، والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة ، فتبدو لي الحاجة ، فأكره أن أجلس فأوذي النبي صلى الله عليه وسلم فأنسل من عند رجليه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إنه يدل على أن الصلاة لا يقطعها شيء ، بيان ذلك أن عائشة أنكرت على من ذكر عندها أن الصلاة يقطعها الكلب ، والحمار ، والمرأة بكونها كانت على السرير بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ، وهي مضطجعة ، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قطعا لصلاته ، فهذه الحالة أقوى من المرور ، فإذا لم تقطع في هذه ، ففي المرور بالطريق الأولى ، ثم المرور عام من أي حيوان كان ؛ لأن الشارع جعل كل مار بين يدي المصلي شيطانا ، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن مالك ، وأبو داود ، عن القعنبي ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا كان أحدكم يصلي ، فلا يدعن أحدا يمر بين يديه ، وليدرأه ما استطاع ، فإن أبى فليقاتله ، فإنما هو شيطان ) وهو بعمومه يتناول بني آدم ، وغيرهم ، ولم يجعل نفس المرور قاطعا ، وإنما ذم المار حيث جعله شيطانا من باب التشبيه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم ثمانية ، قد ذكروا كلهم ، والأعمش هو سليمان ، وإبراهيم هو النخعي ، والأسود هو ابن يزيد النخعي ، ومسلم هو أبو الضحى ، ومسروق هو ابن الأجدع .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع ، وبصيغة الإفراد في موضع واحد ، وفيه العنعنة في أربعة مواضع ، وفيه إسنادان أحدهما عن عمر بن حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، والآخر عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة ، وأشار إليه بقوله : وقال الأعمش : حدثني مسلم ، قال الكرماني : هذا إما تعليق ، وإما داخل تحت الإسناد الأول ، وهذا تحويل ، سواء كان بكلمة ( ح ) كما في بعض النسخ ، أو لم يكن ، وقال بعضهم : قال الأعمش ، هو مقول حفص بن غياث ، وليس بتعليق ، ( قلت ) : أراد به الرد على الكرماني ، وليس له وجه ؛ لأنه ذكر التعليق بالنظر إلى ظاهر الصورة ، وذكر أيضا أنه داخل تحت الإسناد الأول ، وهذا الحديث قد تكرر ذكره مطولا ومختصرا بوجوه شتى وطرق مختلفة . ذكر في باب الصلاة على الفراش ، وفي باب الصلاة على السرير ، وفي باب استقبال الرجل الرجل في الصلاة ، وفي باب الصلاة خلف النائم ، وفي باب التطوع خلف المرأة ، وفي هذا الباب في موضعين .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه وإعرابه ) : قوله : ( ذكر عندها ) ، أي : إنه ذكر عند عائشة . قوله : ( ما يقطع ) كلمة ما موصولة ، ويجوز فيه وجهان ، الأول : أن تكون مبتدأ وخبره قوله : الكلب ، والجملة في محل النصب ؛ لأنه مفعول ما لم يسم فاعله ، وهو قوله : ذكر على صيغة المجهول ، الوجه الثاني : أن يكون ما مفعول ما لم يسم فاعله ، ويكون قوله : الكلب بدلا منه . قوله : ( وأنا على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة ) ثلاثة أخبار مترادفة ، قاله الكرماني ، وقال أيضا : أو خبران وحال ، أو حالان وخبر ، وفي بعضها مضطجعة بالنصب ، فالأولان خبران ، أو أحدهما حال ، والآخر خبر ، ( قلت ) : التحقيق فيه أن قوله : وأنا على السرير جملة اسمية وقعت حالا من عائشة ، وكذا بينه وبين القبلة حال . وقوله : مضطجعة بالرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره : وأنا مضطجعة ، وعلى التقديرين تكون هذه الجملة أيضا حالا ، ويجوز أن يكون مضطجعة بالرفع خبرا لقوله : وأنا ، أي : والحال أنا مضطجعة [ ص: 299 ] على السرير ، فعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير مبتدأ ، وأما وجه النصب في ( مضطجعة ) فعلى أنه حال من عائشة أيضا ، ثم يجوز أن يكون هذان الحالان مترادفين ، ويجوز أن يكونا متداخلين . قوله : ( شبهتمونا بالحمر والكلاب ) ، وفي رواية للبخاري : ( لقد جعلتمونا كلابا ) ، وهي في استقبال الرجل الرجل وهو يصلي ، وفي رواية مسلم : ( قالت : عدلتمونا بالكلاب والحمر ) ، وفي رواية أخرى له : ( لقد شبهتمونا بالحمير والكلاب ) ، وفي رواية الطحاوي ( لقد عدلتمونا بالكلاب والحمير ) ، وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث من سبع طرق صحاح ، وفي رواية سعيد بن منصور ( قالت عائشة : يا أهل العراق قد عدلتمونا ) الحديث ، وقد أخرج أهل العراق حديثا عن أبي ذر ، أخرجه مسلم ، وقال : حدثنا ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا إسماعيل بن علية ، وحدثني زهير بن حرب ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن يونس ، عن حميد بن هلال ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا قام أحدكم يصلي ، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل ، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار ، والمرأة ، والكلب الأسود ، قلت : يا أبا ذر ، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر ومن الكلب الأصفر ، قال : يا ابن أخي ، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني ، فقال : الكلب الأسود شيطان ) وأخرجه الأربعة أيضا مطولا ومختصرا ، وقيد الكلب في روايته بالأسود ، وروى ابن ماجه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقطع الصلاة الكلب الأسود ، والمرأة الحائض ) وقيد المرأة في روايته بالحائض . قوله : ( فتبدو لي الحاجة ) ، أي : تظهر ، وفي ( مسند ) السراج ( فيكون لي حاجة ) . قوله : ( فأكره أن أجلس ) ، أي : مستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر في باب الصلاة على السرير ، فأكره أن أسنحه ، وفي باب استقبال الرجل : فأكره أن أستقبله ، والمقصود من ذلك كله واحد ، لكن باختلاف المقامات اختلفت العبارات . قوله : ( فأوذي ) بلفظ المتكلم من المضارع وفاعله الضمير فيه ، والنبي بالنصب مفعوله ، وفي النسائي من طريق شعبة ، عن منصور ، عن الأسود ، عن عائشة في هذا الحديث : ( فأكره أن أقوم فأمر بين يديه ) . قوله : ( فأنسل ) بالرفع عطفا على قوله : ( فأكره ) ، وليس بالنصب عطفا على ( فأوذي ) ومعنى ( فأنسل ) ، أي : أمضي بتأن وتدريج ، وقد ذكرناه مرة ، وفي رواية الطحاوي ( فأنسل انسلالا ) ، وكذا في رواية للبخاري .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) : قال الطحاوي : دل حديث عائشة على أن مرور بني آدم بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة ، وكذلك دل حديث أم سلمة ، وميمونة بنت الحارث ، فأخرج الطحاوي حديث أم سلمة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، قالت : ( كان يفرش لي حيال مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يصلي وأنا حياله ) ، وأخرجه أحمد في ( مسنده ) نحوه ، غير أن في لفظه : ( حيال مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، أي : تلقاء وجهه ، وأخرج الطحاوي أيضا حديث ميمونة عن عبد الله بن شداد ، قال : حدثتني خالتي ميمونة بنت الحارث ، قالت : ( كان فراشي حيال مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فربما وقع ثوبه علي وهو يصلي ) ، وأخرجه أبو داود ، ولفظه : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا حذاءه ، وأنا حائض ، وربما أصابني ثوبه إذا سجد ، وكان يصلي على الخمرة ) . قوله : ( مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بفتح اللام ، وهو الموضع الذي كان يصلي فيه صلى الله عليه وسلم في بيته ، وهو مسجده الذي عينه للصلاة فيه ، والخمرة بضم الخاء المعجمة : حصير صغير يعمل من سعف النخل وينسج بالسيور والخيوط ، وهي على قدر ما يوضع عليها الوجه والأنف ، فإذا كبرت عن ذلك تسمى حصيرا ، وقال الطحاوي : فقد تواترت هذه الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على أن بني آدم لا يقطعون الصلاة ، وقد جعل كل مار بين يدي المصلي في حديث ابن عمر ، وأبي سعيد شيطانا ، وأخبر أبو ذر أن الكلب الأسود إنما يقطع الصلاة ؛ لأنه شيطان ، فكانت العلة التي جعلت لقطع الصلاة قد جعلت في بني آدم أيضا ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يقطعون الصلاة ، فدل على أن كل مار بين يدي المصلي مما سوى بني آدم كذلك أيضا لا يقطع الصلاة ، والدليل على صحة ما ذكرنا أن ابن عمر مع روايته ما ذكرنا عنه صلى الله عليه وسلم من قوله قد روى عنه من بعده ما حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن سالم ، قال : قيل لابن عمر : إن عبد الله بن عياش بن ربيعة يقول : يقطع الصلاة الكلب والحمار ، فقال ابن عمر : لا يقطع صلاة المسلم شيء ، وقد دل هذا على ثبوت نسخ ما كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار ما قال به أولى عنده من ذلك ، وقال بعضهم : وتعقب على كلام الطحاوي بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا علم التاريخ وتعذر الجمع ، والتاريخ هنا لم يتحقق ، والجمع لم يتعذر ، ( قلت ) : لا نسلم [ ص: 300 ] ذلك ؛ لأن مثل ابن عمر بعدما روى أن المرور يقطع ، قال : لا يقطع صلاة المسلم شيء ، فلو لم يثبت عنده نسخ ذلك لم يقل بما قال من عدم القطع ، ومن الدليل على ذلك أن ابن عباس الذي هو أحد رواة القطع روي عنه أنه حمله على الكراهة .

                                                                                                                                                                                  وقال البيهقي : روى سماك عن عكرمة قيل لابن عباس : أتقطع الصلاة المرأة ، والكلب ، والحمار ، فقال : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فما يقطع هذا ، ولكن يكره ، وقال الطحاوي ، وقد روي عن نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مرور بني آدم وغيرهم بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة ، ثم أخرج عن سعيد بن المسيب بإسناد صحيح أن عليا وعثمان رضي الله تعالى عنهما قالا : ( لا يقطع صلاة المسلم شيء وادرؤوا ما استطعتم ) ، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة في ( مصنفه ) عن ابن المسيب عن علي وعثمان ، قالا : ( لا يقطع الصلاة شيء فادرؤوهم عنكم ما استطعتم ) ، وأخرج الطحاوي عن كعب بن عبد الله ، عن حذيفة بن اليمان يقول : ( لا يقطع الصلاة شيء ) ، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا ، وأخرج الطبراني من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا : ( لا يقطع الصلاة شيء إلا الحدث ) ، وقال الكرماني : القائلون بقطع الصلاة بمرورهم من أين قالوا به ، ( قلت ) : إما باجتهادهم ، ولفظ شبهتمونا يدل عليه ، إذ نسبت التشبيه إليهم ، وإما بما ثبت عندهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، ( قلت ) : هذا السؤال سؤال من لم يقف على الأحاديث التي فيها القطع ، وأحد شقي الجواب غير موجه ؛ لأنه لا مجال للاجتهاد عند وجود النصوص ، ثم قال الكرماني : فإن قال الرسول به ، فلم لا يحكم بالقطع ، ( قلت ) : إما لأنها رجحت خبرها على خبرهم من جهة أنها صاحبة الواقعة ، أو من جهة أخرى ، أو لأنها أولت القطع بقطع الخشوع ، ومواطأة القلب اللسان في التلاوة ، لا قطع أصل الصلاة ، أو جعلت حديثها وحديث ابن عباس من مرور الحمار الأتان ناسخين له ، وكذا حديث أبي سعيد الخدري حيث قال : ( فليدفعه ، وفليقاتله ) من غير حكم بانقطاع الصلاة بذلك ، ( ( فإن قلت ) ) : لم لم يعكس بأن يجعل الأحاديث الثلاثة منسوخة به ، ( قلت ) : للاحتراز عن كثرة النسخ ، إذ نسخ حديث واحد أهون من نسخ ثلاثة ، أو لأنها كانت عارفة بالتاريخ وتأخرها عنه .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية