الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  339 12 - ( حدثنا عمر بن حفص ، قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الأعمش ، قال : سمعت شقيق بن سلمة ، قال : كنت عند عبد الله وأبي موسى ، فقال له أبو موسى : أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع ؟ فقال عبد الله : لا يصلي حتى يجد الماء ، فقال أبو موسى : فكيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كان يكفيك " ؟ قال : ألم تر عمر لم يقنع بذلك ؟ فقال أبو موسى : فدعنا من قول عمار كيف تصنع بهذه الآية ؟ فما درى عبد الله ما يقول ، فقال : إنا لو رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم ، ف : ( قلت ) لشقيق : فإنما كره عبد الله لهذا قال : نعم " .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا طريق آخر في الحديث المذكور عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه عن سليمان الأعمش ، وفي رواية أبي ذر وأبي الوقت حدثنا الأعمش وفيه فائدة تصريح سماع الأعمش من شقيق . قوله : " أرأيت " أي : أخبرني . قوله : " يا با عبد الرحمن " أصله يا أبا عبد الرحمن ، فحذفت الهمزة فيه تخفيفا ، وأبو عبد الرحمن كنية عبد الله بن مسعود . قوله : " إذا أجنب " أي الرجل فلم يجد الماء ، ويروى " إذا أجنبت فلم تجد " بتاء الخطاب فيهما . قوله : " كيف يصنع " بياء الغيبة أي : كيف يصنع الرجل ، وعلى رواية الخطابي : " كيف تصنع " بتاء الخطاب أيضا ، والرواية بالغيبة أشهر وأوجه بدليل قوله : " فقال عبد الله : لا يصلي " أي : لا يصلي الرجل الذي لا يجد الماء حتى يجد ؛ أي : إلى أن يجد الماء . قوله : " كان يكفيك " أي : مسح الوجه والكفين . قوله : " فدعنا من قول عمار " أي اتركنا ، وكلمة دع أمر من يدع ، وأمات العرب ماضيه ، والمعنى اقطع نظرك عن قول عمار فما تقول فيما ورد في القرآن هو قوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا وهو معنى قوله : " كيف تصنع بهذه الآية " وهي قوله تعالى : فلم تجدوا الآية . قوله : " فما درى عبد الله ما يقول " أي : فلم يعرف عبد الله ما يقول في توجيه الآية على وفق فتواه ولعل المجلس ما كان يقتضي تطويل المناظرة وإلا فكان لعبد الله أن يقول المراد من الملامسة في الآية تلاقي البشرتين فيما دون الجماع ، وجعل التيمم بدلا من الوضوء فقط ، فلا يدل على جواز التيمم للجنب . قوله : " في هذا " أي : في التيمم للجنب . قوله : " لأوشك " أي : قرب وأسرع ، وهذا رد على من زعم أنه لا يجيء من باب يوشك أوشك ماضيا ولا يستعمل إلا مضارعا . قوله : " إذا برد " بفتح الباء والراء ، وقال الجوهري : بضم الراء ، والمشهور الفتح ، وقال الكرماني : ( فإن قلت ) ما وجه الملازمة بين الرخصة في تيمم الجنب وتيمم المتبرد حتى صح أن يقال : لو رخصنا لهم في ذلك لكان إذا وجد أحدهم البرد تيمم ( قلت ) الجهة الجامعة بينهما اشتراكهما في عدم القدرة على استعمال الماء لأن عدم القدرة إما بفقد الماء وإما بتعذر الاستعمال . قوله : " ف : ( قلت ) " أي : قال الأعمش : ( قلت ) لشقيق . قوله : " لهذا " أي : لأجل هذا المعنى ، وهو احتمال أن يتيمم المتبرد ، وقال الكرماني : ( فإن قلت ) الواو لا تدخل بين القول ومقوله ، فلم قال : وإنما كره ( قلت ) هو عطف على سائر مقولاته المقدرة ، أي : ( قلت ) كذا وكذا أيضا انتهى ( قلت ) كأنه اعتمد على نسخة فيها وإنما بواو العطف ، والنسخ المشهورة فإنما بالفاء .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما فيه من الفوائد ) الأولى : فيه جواز المناظرة ، وقال الخطابي : هذه مناظرة والظاهر منهما يأتي على إهمال حكم الآية ، وأي عذر لمن ترك العمل بما في هذه الآية من أجل أن بعض الناس عساه أن يستعملها على وجهها ، وفي غير جنسها ، وما الوجه فيما ذهب إليه عبد الله من إبطال هذه الرخصة مع ما فيه من إسقاط الصلاة عمن هو مخاطب بها ومأمور بإقامتها ، وأجيب عن هذا بأن [ ص: 36 ] عبد الله لم يذهب بهذا المذهب الذي ظنه هذا القائل ، وإنما كان يتأول الملامسة المذكورة في الآية على غير معنى الجماع إذ لو أراد الجماع لكان فيه مخالفة الآية صريحا ، وذلك مما لا يجوز من مثله في علمه وفهمه وفقهه .

                                                                                                                                                                                  الثانية فيه : أن رأي عمر وعبد الله - رضي الله عنهما - انتقاض الطهارة بملامسة البشرتين ، وإن الجنب لا يتيمم لقوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا

                                                                                                                                                                                  الثالثة : قال ابن بطال : فيه جواز التيمم للخائف من البرد ، ( قلت ) يجوز التيمم للجنب المقيم إذا خاف البرد عند أبي حنيفة خلافا لصاحبيه .

                                                                                                                                                                                  الرابعة : فيه جواز الانتقال في المحاجة من دليل إلى دليل آخر بما فيه الخلاف إلى ما عليه الاتفاق ، وذلك جائز للمتناظرين عند تعجيل القطع والإفحام للخصم كما في محاجة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ونمرود - عليه اللعنة - ألا ترى أن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما قال : ربي الذي يحيي ويميت وقال نمرود : ( أنا أحيي وأميت ) لم يحتج إلى أن يوقفه على كيفية إحيائه وإماتته بل انتقل إلى قوله : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فأفحم نمرود عند ذلك .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية