الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  350 [ ص: 62 ] 23 - ( حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال : حدثني مالك بن أنس عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول : ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ، فوجدته يغتسل ، وفاطمة ابنته تستره ، قالت : فسلمت عليه ، فقال : من هذه ؟ فقلت أنا أم هانئ بنت أبي طالب ، فقال : مرحبا بأم هانئ ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله زعم ابن أمي أنه قاتل رجلا قد أجرته ؛ فلان بن هبيرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ، قالت أم هانئ : وذاك ضحى ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم خمسة ، ذكروا غير مرة ، وأبو النضر بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ، واسمه سالم بن أبي أمية ، مولى عمر بن عبيد الله بن معمر القريشي التيمي ، مات سنة تسع وعشرين ومائة ، وأبو مرة بضم الميم وتشديد الراء اسمه يزيد .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد ، وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه العنعنة في موضع واحد ، وفيه الإخبار بصيغة الإفراد ، وفيه السماع ، وفيه القول ، وفيه أن رواته مدنيون ، وفيه أن أبا مرة مولى أم هانئ ، وذكر في باب العلم مولى عقيل وهو في نفس الأمر مولى أم هانئ ، ونسب إلى ولاء عقيل مجازا لإكثاره الملازمة لعقيل .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الطهارة وفي الأدب عن القعنبي ، وأخرجه مسلم في الطهارة وفي الصلاة عن يحيى بن يحيى عن مالك به ، وفي الطهارة أيضا عن محمد بن رمح وعن أبي كريب ، وفي الصلاة أيضا عن حجاج بن الشاعر ، وأخرجه الترمذي في الاستئذان عن إسحاق بن موسى عن معن عن مالك به ، وفي السير عن أبي الوليد الدمشقي . وأخرجه النسائي في الطهارة عن يعقوب بن إبراهيم عن ابن مهدي عن مالك ، وفي السير عن إسماعيل بن مسعود ، وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن محمد بن رمح .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معانيه وإعرابه ) . قوله : " عام الفتح " أي : فتح مكة . قوله : " يغتسل " جملة حالية ، وقوله : " وفاطمة تستره " جملة اسمية حالية أيضا . قوله : " فقلت أنا " ويروى " قلت " بدون الفاء . قوله : " مرحبا " منصوب بفعل مقدر ، تقديره لقيت رحبا وسعة . قوله : " ثماني ركعات " بكسر النون وفتح الياء ، قال الكرماني : ثمان ركعات بفتح النون ( قلت ) حينئذ يكون منصوبا بقوله : فصلى ، وقال الجوهري : هو في الأصل منسوب إلى الثمن لأنه الجزء الذي صير السبعة ثمانية فهو ثمنها ، ثم إنهم فتحوا أوله لأنهم يغيرون في النسب وحذفوا منه إحدى يائي النسبة وعوضوا منها الألف كما فعلوا في المنسوب إلى اليمن فثبتت ياؤه عند الإضافة ، كما ثبتت ياء القاضي تقول : ثماني نسوة ، وتسقط مع التنوين عند الرفع والجر وتثبت عند النصب لأنه ليس بجمع . قوله : " ملتحفا " نصب على الحال من الضمير الذي في صلى . قوله : " فلما انصرف " أي : من الصلاة . قوله : " زعم " معناه هنا : قال أو ادعى . قوله : " ابن أمي " وفي رواية الحموي " ابن أبي " ولا تفاوت في المقصود ؛ لأنها أخت علي - رضي الله تعالى عنه - من الأب والأم ، ولكن الوجه في رواية " ابن أمي " تأكيد الحرمة والقرابة والمشاركة في البطن ، وذلك كما في قوله تعالى حكاية عن هارون لموسى - عليهما الصلاة والسلام - : قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي قوله : " إنه قاتل " لفظ قاتل اسم فاعل ، لا ماض ، من باب المفاعلة ، والمعنى أنه عازم لقتله ؛ لأنه لم يكن قاتلا حقيقة في ذلك الوقت ، ولكن لما عزم على التلبس بالفعل أطلقت عليه القاتل . قوله : " رجلا " منصوب بقوله قاتل . قوله : " قد أجرته " جملة في محل النصب لأنها صفة لرجل ، وهو بفتح الهمزة بدون المد ، ولا يجوز فيه المد لأنه إما من الجور فتكون الهمزة فيه للسلب والإزالة - يعني لسلب الفاعل عن المفعول - ، أصل الفعل نحو أشكيته أي : أزلت شكايته ، وإما من الجوار بمعنى المجاورة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فلان بن هبيرة " يجوز فيه الرفع والنصب ، أما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف ، وأما النصب فعلى أنه بدل من رجلا ، أو من الضمير المنصوب [ ص: 63 ] في أجرته ، وهبيرة بضم الهاء وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وبالراء ابن أبي وهب بن عمر بن عائد بن عمران المخزومي ، زوج أم هانئ بنت أبي طالب ، شقيقة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وهي أسلمت عام الفتح ، وكان لهبيرة أولاد منها وهم : عمر ، وبه كان يكنى ، وهانئ ، ويوسف ، وجعدة ، وقد ذكرنا أن اسم أم هانئ فاختة ، وكنيت بهانئ أحد أولادها المذكورين ، ثم قولها فلان ابن هبيرة فيه اختلاف كثير من جهة الرواية ومن جهة التفسير ، ففي التمهيد من حديث محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعد عن أبي مرة " عن أم هانئ قالت : أتاني يوم الفتح حموان لي فأجرتهما ، فجاء علي يريد قتلهما ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبة بالأبطح بأعلى مكة " الحديث ، وفيه : " أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت " ، وفي معجم الطبراني " إني أجرت حموي " ، وفي رواية : " حموي ابن هبيرة " ، وفي رواية : " حموي ابني هبيرة " ، وقال أبو عمر في حديث أبي النضر : ما يدل على أن الذي أجارته كان واحدا ، وفي هذا اثنين وأما من جهة التفسير ، فقال أبو العباس ابن سريج : الرجلان هما جعدة بن هبيرة ورجل آخر ، وكانا من الشرذمة الذين قاتلوا خالدا - رضي الله تعالى عنه - ، ولم يقبلوا الأمان ولا ألقوا السلاح فأجارتهما أم هانئ وكانا من أحمائها ، وروى الأزرقي بسند فيه الواقدي في حديث أم هانئ هذا أنهما الحارث بن هاشم وابن هبيرة بن أبي وهب ، وجزم ابن هشام في تهذيب السيرة بأن اللذين أجرتهما أم هانئ هما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان ، وقال الكرماني : أرادت أم هانئ ابنها من هبيرة أو ربيبها كما أن الإبهام فيه محتمل أن يكون من أم هانئ ، وأن يكون الراوي نسي اسمه فذكره بلفظ فلان ، قال الزبير بن بكار : فلان بن هبيرة هو الحارث بن هشام المخزومي ، وقال بعضهم : الذي يظهر لي أن في رواية الباب حذفا لأنه كان فيه فلان بن عم هبيرة فسقط لفظ عم ، أو كان فيه فلان قريب هبيرة فتغير لفظ قريب بلفظ ابن ، وكل من الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية وعبد الله بن أبي ربيعة يصح وصفه بأنه ابن عم هبيرة وقريبه ؛ لكون الجميع من بني المخزوم .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) الأصوب والأقرب أن يقول في توجيه رواية أبي النضر : فلان بن هبيرة أن يكون المراد من فلان هو ابن هبيرة من غير أم هانئ ، فنسي الراوي اسمه وذكره بلفظ فلان ، ويدل على صحة هذا رواية ابن عجلان في التمهيد وروايات الطبراني ، فإنها تدل على أن الذي أجارته أم هانئ هو حموها .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) المذكور في رواية أبي النضر واحد ، وفي هذه الروايات اثنان ( قلت ) لا يضر ذلك لأنه يحتمل أن يكون الراوي اقتصر على ذكر واحد منهما نسيانا كما أبهم اسمه نسيانا ، وقال ابن الجوزي : إن كان ابن هبيرة منها فهو جعدة ، وجوز أبو عمر أن يكون من غيرها وهو الأصوب لما ذكرنا ، ( فإن قلت ) قال بعضهم : نقل أبو عمر من أهل النسب أنهم لم يذكروا لهبيرة ولدا من غيرها ( قلت ) لا يلزم من عدم ذكرهم ذلك أن لا يكون له ابن من غيرها ( فإن قلت ) قال هذا القائل : جعدة معدود فيمن له رواية ولم يصح له صحبة ، وقد ذكره من حيث الرواية في التابعين البخاري وابن حبان وغيرهما ، فكيف يتهيأ لمن هذه سبيله في صغر السن أن يكون عام الفتح مقاتلا حتى يحتاج إلى الأمان ثم لو كان ولد أم هانئ لم يهم علي - رضي الله عنه - بقتله لأنها كانت قد أسلمت وهرب زوجها وترك ولدها عندها ( قلت ) كونه تابعيا أو صحابيا على ما فيه الاختلاف لا ينافي ما ذكرناه فيما قبل ذلك ، وقوله : فكيف يتهيأ إلى آخره مجرد دعوى فيحتاج إلى برهان فظهر مما ذكرنا أن قول الكرماني : أرادت أم هانئ ابنها من هبيرة أو ربيبها أقرب إلى الصواب وأوجه .

                                                                                                                                                                                  وقول بعضهم : والذي يظهر لي . . . إلخ بعيد من ذلك وتصرف من عنده بغير وجه لأن فيه ارتكاب الحذف والمجاز والتقدير بشيء بعيد غير مناسب ومخالف لما ذكره هؤلاء المذكورون آنفا ، وهذا كله خلاف الأصل ، ومما يمجه من له يد في التصرف في الكلام .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وذلك ضحى " ويروى " وذاك ضحى " وهو إشارة لما ذكرته من قولها : " فصلى ثماني ركعات " أي : كان ذلك وقت ضحى ، والدليل عليه ما في رواية أحمد في هذا الحديث : وذلك يوم فتح مكة " ضحى " ويجوز أيضا يقال : وذلك صلاة ضحى ، والدليل عليه ما في رواية أبي حفص بن شاهين أن أم هانئ قالت : يا رسول الله ما هذه الصلاة ؟ قال : الضحى " ، وما رواه ابن أبي شيبة " ثم صلى الضحى ثماني ركعات " وهذا الوجه هو الأصح ، وهذا أيضا يمنع التحرض في ذلك بأن قال بعضهم هي صلاة الفتح ، وبعضهم صلاة الإشراق ، والدليل على ذلك ما في رواية مسلم : " ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 64 ] ( ذكر استنباط الأحكام منه ) منها : جواز تستر الرجال بالنساء ، ومنها جواز السلام من وراء حجاب ، ومنها عدم الاكتفاء بلفظ أنا في الجواب بل يوضح غاية التوضيح كما في ذكر الكنية والنسب ههنا ، ومنها استحباب الترحيب بالزائر وذكر كنيته ، ومنها أنه يدل على صلاة الضحى وأنها ثماني ركعات ، ومنها جواز أمان رجل حر أو امرأة حرة لكافر واحد أو جماعة ، ولم يجز بعد ذلك قتالهم إلا أن يكون في ذلك مفسدة ، ولا يجوز أمان ذمي لأنه متهم بهم ، ولا أسير ، ولا تاجر يدخل عليهم ، ولا أمان عبد عند أبي حنيفة إلا أن يأذن له مولاه في القتال ، وقال محمد : يجوز ، وهو قول الشافعي وأبي يوسف في رواية ، وفي رواية أخرى عنه مثل قول أبي حنيفة ، ولو أمن الصبي وهو لا يعقل لا يصح كالمجنون ، وإن كان يعقل وهو محجور عن القتال فعلى الخلاف ، وإن كان مأذونا له في القتال فالأصح أنه يصح بالاتفاق .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية