الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1364 1365 1366 ص: وأما حديث عبد الحميد بن جعفر فإنهم يضعفون عبد الحميد ، ولا يقيمون به حجة، فكيف يحتجون به في مثل هذا؟! ومع ذلك فإن محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمع ذلك الحديث من أبي حميد ، ولا ممن ذكر معه في ذلك الحديث، بينهما رجل مجهول ، وقد ذكر ذلك العطاف بن خالد عنه عن رجل، وأنا أذكر ذلك في باب: الجلوس في الصلاة من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.

                                                وحديث أبي عاصم عن عبد الحميد هذا ففيه: "فقالوا جميعا: صدقت". فليس يقول ذلك أحد غير أبي عاصم. .

                                                [ ص: 193 ] حدثنا علي بن شيبة ، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: حدثنا هشيم (ح).

                                                وحدثنا ابن أبي عمران ، قال: ثنا القواريري ، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا عبد الحميد ... ، فذكراه بإسناده ولم يقولا: "فقالوا جميعا صدقت".

                                                وهكذا رواه غير عبد الحميد . وأنا ذاكر ذلك في باب: الجلوس في الصلاة. فما نرى كشف هذه الآثار يوجب لما وقف على حقائقها وكشف مخارجها إلا ترك الرفع في الركوع. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.

                                                قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فما أردت بشيء من ذلك تضعيف أحد من أهل العلم، وما هذا بمذهبي، ولكني أردت تبيان ظلم الخصم لنا.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا جواب عن حديث عبد الحميد بن جعفر ، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - ... الحديث.

                                                بيانه: أن عبد الحميد بن جعفر ضعيف عندهم ، لأن الثوري كان يضعفه، فإذا كان ضعيفا عندهم فكيف يحتجون به في مثل هذا الموضع في معرض الاحتجاج على خصمهم؟! وفي "الجوهر النقي": عبد الحميد مطعون في حديثه، كذا قال يحيى بن سعيد، وهو إمام الناس في مثل هذا الباب.

                                                قوله: "ومع ذلك فإن محمد بن عمرو ... " إلى آخره جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: لا نسلم أن عبد الحميد ضعيف; فإنه من رجال صحيح مسلم، واحتج به الأربعة، واستشهد به البخاري في "الصحيح"، وعن أحمد: ثقة ليس به بأس. وعن يحيى كذلك، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث.

                                                وتقدير الجواب: أنا وإن سلمنا أنه مثل ما ذكرتم، ولكن الحديث معلول بجهة أخرى، وهو أن محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمع هذا الحديث من أبي حميد الساعدي، ولا ممن ذكر معه في هذا الحديث مثل أبي قتادة وغيره، وذلك لأن سنه [ ص: 194 ] لا يحتمل ذلك لأن أبا قتادة قتل مع علي - رضي الله عنه - وصلى عليه علي، كذا قال الهيثم بن عدي، وقال ابن عبد البر: هو الصحيح، وقيل: توفي بالكوفة سنة ثمان وثلاثين.

                                                ومحمد بن عمرو بن عطاء توفي في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكانت خلافته في سنة خمس وعشرين ومائة، ولهذا قال ابن حزم: ولعله وهم فيه- يعني عبد الحميد .

                                                فإن قيل: قال البيهقي في كتاب "المعرفة" : أما تضعيف الطحاوي لعبد الحميد فمردود; لأن يحيى بن معين وثقه في جميع الروايات عنه، وكذلك أحمد بن حنبل، واحتج به مسلم في "صحيحه".

                                                وأما ما ذكره من انقطاعه فليس بصحيح، فقد حكم البخاري في "تاريخه" بأنه سمع أبا حميد وأبا قتادة وابن عباس .

                                                وقوله: "قتل مع علي" رواية شاذة رواها الشعبي، والصحيح الذي أجمع عليه أهل التاريخ: أنه بقي إلى سنة أربع وخمسين، ونقله عن الترمذي والواقدي والليث وابن منده، ثم قال: وإنما اعتمد الشافعي في حديث أبي حميد برواية إسحاق بن عبد الله ، عن عباس بن سهل ، عن أبي حميد، ومن سماه من الصحابة، وأكده برواية فليح بن سليمان ، عن عباس بن سهل عنهم فالإعراض عن هذا والاشتغال بغيره ليس من شأن من يريد متابعة السنة.

                                                قلت: أما قوله: "أما تضعيف الطحاوي لعبد الحميد مردود" فهو مردود لما ذكرنا عن يحيى بن سعيد والثوري، وذكره ابن الجوزي في كتاب "الضعفاء والمتروكين" فقال: كان يحيى بن سعيد القطان يضعفه، وكان الثوري يحمل عليه ويضعفه، وقال يحيى بن سعيد: كان سفيان يضعفه من أجل القدر على أن الطحاوي قد نسب تضعيفه إليهم ولم يضعفه من عنده، ولو كان ضعفه من عنده لكان مقبولا أيضا; لأنه إن لم يكن من أهل ذلك فمن يكون.

                                                [ ص: 195 ] وأما قوله: "وأما ما ذكره من انقطاعه فليس بصحيح ... " إلى آخره فمجرد تشنيع وتعصب محض; لأن الطحاوي لم يقل هذا من عند نفسه، بل إنما حكم بأن محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمع من أبي حميد ولم ير أبا قتادة لعدم احتمال سنه ذلك; لأنه قتل مع علي - رضي الله عنه - وصلى عليه علي، وهو قول الإمام عامر الشعبي الحجة في هذا الباب، وقول الهيثم بن عدي، ولهذا قال ابن عبد البر: هو الصحيح. وفي "الكمال" قال: وقيل توفي سنة ثمان وثلاثين، فكيف يقول البيهقي: هذه رواية شاذة؟! فلم لا يجوز أن تكون رواية البخاري شاذة؟ بل هي شاذة بلا شك; لأن قوله لا يرجح على قول الشعبي والهيثم بن عدي .

                                                قوله "بينهما رجل مجهول" أي بين محمد بن عمرو بن عطاء وبين أبي حميد، وأشار بهذا إلى أنه منقطع، وأنه مضطرب السند والمتن; لأن العطاف بن خالد رواه فأدخل بينه يعني بين محمد بن عمرو بن عطاء وبين النفر من الصحابة رجلا مجهولا، والعطاف وثقه ابن معين، وعنه قال: صالح. وعنه: ليس به بأس. وقال أحمد: من أهل مكة ثقة صحيح الحديث.

                                                والدليل على أن بينهما واسطة: أن أبا حاتم بن حبان أخرج هذا الحديث في "صحيحه" : من طريق عيسى بن عبد الله ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن عباس بن سهل الساعدي: "أنه كان في مجلس فيه أبوه وأبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد الساعدي ... " الحديث وذكر المزي ومحمد بن طاهر المقدسي في "أطرافهما": أن أبا داود أخرجه من هذا الطريق.

                                                وأخرجه البيهقي : في باب السجود على اليدين والركبتين من طريق الحسن بن الحر، حدثني عيسى بن عبد الله بن مالك ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن مالك ، عن عياش -أو عباس بن سهل- ... الحديث. ثم قال: وروى [ ص: 196 ] عتبة بن أبي حكيم ، عن عبد الله بن عيسى ، عن العباس بن سهل ، عن أبي حميد. لم يذكر محمدا في إسناده.

                                                وقال البيهقي في باب: القعود على الرجل اليسرى بين السجدتين: وقد قيل في إسناده: عن عيسى بن عبد الله، سمعه عن عباس بن سهل، أنه حضر أبا حميد ثم في رواية عبد الحميد أيضا: "أنه رفع عند القيام من الركعتين".

                                                وهذا يلزم الإمام الشافعي، وفيها أيضا التورك في الجلسة الثانية.

                                                وفي رواية عباس بن سهل التي ذكرها البيهقي بعد هذه الرواية خلاف هذه، ولفظها: "حتى فرغ ثم جلس فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته" فظهر بهذا أن الحديث مضطرب الإسناد والمتن والله أعلم.

                                                قوله: "وأنا أذكر ذلك" أي كون رجل مجهول بين محمد بن عمرو بن عطاء، وبين أبي حميد، وقد ذكر ذلك: في باب الجلوس في الصلاة بقوله: حدثنا فهد بن سليمان ويحيى بن عثمان، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا يحيى وسعيد بن أبي مريم، قالا: ثنا عطاف بن خالد، قال: حدثني محمد بن عمرو بن عطاء، قال: حدثني رجل: "أنه وجد عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - جلوسا ... " الحديث.

                                                قوله: "وحديث أبي عاصم عن عبد الحميد" [أي حديث] أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد ، عن عبد الحميد بن جعفر هذا ففي آخره: "فقالوا جميعا: صدقت، هكذا كان يصلي" وليس ذاك في غير رواية أبي عاصم، وبين ذلك بقوله: حدثنا علي بن شيبة ... إلى آخره.

                                                [ ص: 197 ] وأخرجه من طريقين:

                                                الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي ، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم ، عن هشيم بن بشير ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن محمد بن عمرو .

                                                والثاني: عن أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي ، عن عبيد الله بن عمر القواريري ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن محمد بن عمرو فذكر كل منهما الحديث بإسناده ولم يقولا: "فقالوا جميعا: صدقت" فدل ذلك على أن حديث عبد الحميد مضطرب.

                                                قوله: "وكذا رواه غير عبد الحميد" أي من غير لفظة، "فقالوا جميعا: صدقت" وسيجيء هذا في باب: الجلوس في الصلاة، فلذلك قال: وأنا ذاكر ذلك في باب الجلوس في الصلاة.

                                                قوله: "فما نرى كشف هذه الآثار" أي الأحاديث التي رويت في هذا الباب على اختلاف المتون والأسانيد "يوجب لما وقف" أي حين وقف على حقائقها وكشف مخارجها إلا ترك رفع اليدين في الركوع.

                                                وقوله: "يوجب" جملة في محل النصب على أنها مفعول ثان لقوله "فما نرى".

                                                قوله: "تبيان ظلم الخصم لنا" بكسر التاء، على وزن تفعال، اسم للتبيين، قال الجوهري: التبيان مصدر وهو شاذ; لأن المصادر إنما تجيء على التفعال -بفتح التاء- مثل التذكار والتكرار والتوكاف ولم تجئ على الكسر إلا حرفان، وهما التبيان والتلقاء.




                                                الخدمات العلمية