الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1417 ص: فإن قال قائل: إنما كان ذلك من النبي - عليه السلام - بقرب وفاته لأن في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: كشف النبي - عليه السلام - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر . - رضي الله عنه -.

                                                قيل له: فهل في الحديث أن تلك الصلاة هي الصلاة التي توفي رسول الله - عليه السلام - بعقبها، أو أن تلك المرضة هي مرضته التي توفي فيها، ليس في الحديث منها شيء، فقد يجوز أن تكون هي الصلاة التي توفي بعقبها، ويجوز أن تكون صلاة غيرها وقد صح بعدها، فإن كانت هي الصلاة التي توفي بعدها فقد يجوز أن تكون سبح اسم ربك الأعلى نزلت عليه بعد ذلك قبل وفاته، وإن كانت تلك الصلاة متقدمة لذلك فهو أحرى أن يجوز أن يكون بعدها.

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال: إن قوله - عليه السلام -: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم". كان بقرب موته - عليه السلام - بدليل قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كشف النبي - عليه السلام - الستارة ... " الحديث، فإذا كان الأمر كذلك; يكون هذا متأخرا، فكيف يكون منسوخا؟.

                                                [ ص: 273 ] وتقرير الجواب أن يقال: ليس في الحديث ما يدل على أن تلك الصلاة التي خرج إليها رسول الله - عليه السلام - بعد كشف الستارة هي الصلاة التي توفي رسول الله - عليه السلام - عقيبها، وليس فيه أيضا أن مرضته -عليه السلام- تلك هي المرضة التي توفي فيها رسول الله - عليه السلام -، ولكن يحتمل أن تكون هي الصلاة التي توفي عقبها، ويحتمل أن لا يكون ذلك، بل قد صح بعدها - عليه السلام -، فإن كانت هي الصلاة التي توفي عقيبها، فقد يحتمل أن يكون قوله سبح اسم ربك الأعلى نزل عليه بعد ذلك قبل وفاته، وإن كانت تلك الصلاة متقدمة فبالطريق الأولى أن يكون ذلك. فعلى كلا التقديرين يثبت النسخ، والله أعلم.

                                                وقد شنع البيهقي في كتابه "المعرفة" في هذا المقام على الطحاوي، وقال: روى الطحاوي ما روينا ها هنا، وفي كتاب "السنن" من الأحاديث فيما يقال في الركوع والسجود، ثم ادعى نسخها بحديث عقبة بن عامر الجهني; فكأنه عرض بقلبه حديث سليمان بن سحيم بإسناده عن ابن عباس، في الأمر بالدعاء في السجود، وأن ذلك كان من النبي - عليه السلام – في مرض موته حين كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر - رضي الله عنه - فقال: "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له" ثم ذكر ما روينا في إسناد الشافعي، فتحير في الجواب عنه، فأتى بكلام بارد، فقال: يجوز أن تكون سبح اسم ربك الأعلى نزلت عليه بعد ذلك قبل وفاته، ولم يعلم أن هذا القول صدر من النبي - عليه السلام - غداة يوم الاثنين، والناس صفوف خلف أبي بكر - رضي الله عنه - في صلاة الصبح، كما دل عليه حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، وهو اليوم الذي توفي فيه، وقد روينا في الحديث الثابت : عن النعمان بن بشير: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك [ ص: 274 ] حديث الغاشية، وإذا اجتمعا في يوم واحد يقرأ بهما". وقد روينا عن سمرة بن جندب قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في العيدين سبح اسم ربك الأعلى و هل أتاك حديث الغاشية " وفي رواية أخرى : "في صلاة الجمعة" وفي هذا دلالة على أن سبح اسم ربك الأعلى كان قد نزل قبل ذلك بزمان كثير، وروينا عن البراء بن عازب في الحديث الطويل في هجرة النبي - عليه السلام - قال: "فما قدم يعني رسول الله - عليه السلام - المدينة حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور من المفصل.

                                                وروينا في حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - في قصة من خرج في صلاته حين افتتح سورة البقرة أن النبي - عليه السلام - أمره أن يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، ونحو ذلك، وكان هذا أيضا قبل مرضه بكثير، وقد تحير صاحب هذه المقالة في خبر معاذ، وصار أمره إلى أن حمله في مسألة "الفريضة خلف التطوع" على أن ذلك كان في وقت تصلى فيه الفريضة الواحدة في يوم واحد مرتين وذلك في زعمه في أول الإسلام، فنزول سبح اسم ربك الأعلى عنده إذن في تلك المسألة في أول الإسلام، وفي هذه المسألة في اليوم الذي توفي فيه رسول الله - عليه السلام -، ليستقيم قوله في الموضعين، وهذا شأن من يسوي الأخبار على مذهبه، ويجعل مذهبه أصلا، وأحاديث رسول الله - عليه السلام - تبعا، والله المستعان، ومشهور فيما بين أهل التفسير أن سورة سبح اسم ربك الأعلى، وسورة الواقعة والحاقة اللتين فيهما فسبح باسم ربك العظيم نزلن بمكة وهو فيما رويناه عن الحسن البصري وعكرمة وغيرهما فكيف استجاز هذا الشيخ ادعاء نسخ ما ورد في [ ص: 275 ] حديث ابن عباس من قول النبي - عليه السلام - وأمره بالدعاء في السجود في مرض موته بما نزل قبله بدهر طويل بالتوهم والله أعلم.

                                                قلت: قول البيهقي: "فأتى بكلام بارد ... " إلى آخره تشنيع بارد صادر عن أريحية تعصب; لأن الطحاوي إنما قال: قد يجوز أن تكون هي الصلاة التي توفي بعقبها إلى آخره في حديث ابن عباس; لأن حديث ابن عباس ساكت عن بيان وفاته - عليه السلام - في مرضه ذلك أو في يومه الذي قال فيه ذلك، وإنما بيانه ذلك جاء في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - وهو ما رواه مسلم وغيره.

                                                فقال مسلم : حدثني عمرو الناقد وحسن الحلواني وعبد بن حميد -قال عبد: أخبرني، وقال الآخران: حدثنا يعقوب وهو ابن إبراهيم بن سعد، قال: فحدثنا أبي، عن صالح ، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك: "أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يصلي لهم في وجع رسول الله - عليه السلام - الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله - عليه السلام - ستر الحجرة، فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله - عليه السلام - ضاحكا، فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله - عليه السلام - ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله - عليه السلام - خارج للصلاة، فأشار إليهم رسول الله - عليه السلام - بيده: أن أتموا صلاتكم، قال: ثم دخل رسول الله - عليه السلام - فأرخى الستر، قال: فتوفي رسول الله - عليه السلام - من يومه ذلك". انتهى.

                                                فهذا ليس فيه ما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في حديثه من قوله: "أما الركوع فعظموا فيه الرب ... " إلى آخره، ولا فيه ما في حديث أنس من بيان وفاته - عليه السلام - في ذلك اليوم; فعلمنا أن الحديثين متغايران فمن أين يورد البيهقي عليه ويقول: ولم يعلم أن هذا القول صدر من النبي - عليه السلام - غداة يوم الاثنين والناس صفوف خلف أبي بكر في صلاة الصبح كما دل عليه حديث أنس - رضي الله عنه - فلا نسلم دلالة حديث أنس على أن [ ص: 276 ] قضية حديث ابن عباس بعينها هي ابن حديث أنس، فلم لا يجوز أن يكون حديث ابن عباس قبل ذلك بزمان، فما المانع من ذلك وكلام الطحاوي مبني على هذا الاحتمال، ثم روايته عن النعمان بن بشير وغيره مما يدل على أن سبح اسم ربك الأعلى، وسبح اسم ربك العظيم، قد نزلتا قبل ذلك بزمان لا يضر الطحاوي، ولا ينافي كلامه; لأن حديث ابن عباس إذا كان محتملا أن يكون قبل حديث أنس، يكون محتملا أيضا أن يكون قبله بزمان طويل، فحينئذ يكون نزول الآيتين بعد حديثه قبل وفاته - عليه السلام - بمدة طويلة.

                                                فإن قيل: سلمنا ما ذكرت هذا، ولكن ما تقول في قوله: "ومشهور بين أهل التفسير أن سورة سبح اسم ربك الأعلى، وسورة الواقعة والحاقة اللتين فيهما قوله: فسبح باسم ربك العظيم نزلن بمكة، فإذا كان كذلك يكون نزول هاتين الآيتين قديما، ولا شك أن حديث ابن عباس مدني، فكيف يكون منسوخا بنص متقدم قبله بدهر طويل؟

                                                قلت: يجوز أن تكون السور المذكورة مكية والآيتين مدنيتين، أو يكون الناسخ لذلك هو قوله - عليه السلام -: اجعلوها في ركوعكم واجعلوها في سجودكم، لا نفس الآيتين المتقدمتين في النزول.

                                                فإن قيل: قوله - عليه السلام -: "اجعلوها في ركوعكم واجعلوها في سجودكم" إنما كان عند نزول الآيتين فيكون هذا أيضا متقدما.

                                                قلت: يمكن أن يكون قوله - عليه السلام - ذلك بعد نزول الآيتين بزمان، بل الظاهر هذا أنه بعد نزولهما بمدة، والدليل عليه أن عقبة بن عامر الجهني راوي هذا الحديث أسلم بالمدينة، والآيتان على ما قال البيهقي: مكيتان، فكيف يكون قوله - عليه السلام - ذلك حين نزول الآيتين؟ وكيف تصح أخبار عقبة بذلك والحال أنه لم يكن حاضرا وقت نزول الآيتين، ولا كان مسلما حينئذ؟! فعلمنا أن قوله - عليه السلام - بذلك كان متأخرا حتى أخبر به عقبة، فإذا كان متأخرا يكون ناسخا لما كان من فعله - عليه السلام - مما كان يدعو به في [ ص: 277 ] الركوع والسجود، على ما ذكرنا، ثم الدليل على أن عقبة أسلم بالمدينة ما قاله ابن الأثير في "معرفة الصحابة" روى عنه أبو عشانة أنه قال: "قدم رسول الله - عليه السلام - المدينة وأنا في غنم لي أرعاها، فتركتها ثم ذهبت إليه، فقلت: تبايعني يا رسول الله، قال: فمن أنت؟ فأخبرته فقال: أيهما أحب إليك; تبايعني بيعة أعرابية أو بيعة هجرة؟ قلت: بيعة هجرة، فبايعني" .

                                                فإن قيل: يجوز أن يكون عقبة - رضي الله عنه - حاكيا للحديث المذكور عمن سمعه من الصحابة من غير حضور منه على ذلك.

                                                قلت: صرح في حديثه بقوله: "لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال لنا رسول الله - عليه السلام -: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال لنا رسول الله - عليه السلام -: اجعلوها في سجودكم" فهذا يرد هذا الاحتمال على ما لا يخفى، ولما طرق سمعي ما نقلته من البيهقي وحطه على الطحاوي صعب ذلك شديدا لا لأجل أنه من أكابر أئمة أصحابنا ولا لأجل أني متعصب له، وإنما ذلك لأجل تعصبه عليه بغير طريق وحطه عليه بغير وجه في غير موضع من كتابه، ولم أجد أحدا أجاب عنه، ففكرت فيه ساعة مديدة، فلم يفتح لي شيء، ثم صليت على سيد آل خلق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عشر مرات، فكأن ما ذكرته قد صب في خلدي دفعة واحدة فجرى ذلك على جناني ثم جرى ببناني على البيان، ولله الحمد والمنة، على هذا الفضل والإحسان.




                                                الخدمات العلمية