الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1430 ص: حدثنا مالك بن عبد الله بن سيف ، قال: ثنا عبد الله بن يوسف الدمشقي، قال: أنا سعيد بن عبد العزيز التنوخي ، عن عطية بن قيس الكلاعي ، عن قزعة بن [ ص: 297 ] يحيى ، عن أبي سعيد الخدري ، - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - مثله، وزاد: "أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد ، لا نازع لما أعطيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". .

                                                التالي السابق


                                                ش: إسناده صحيح، وعبد الله بن يوسف شيخ البخاري ، وسعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي أبو عبد العزيز الدمشقي فقيه أهل الشام ومفتيهم بعد الأوزاعي، روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح.

                                                وعطية بن قيس الكلاعي أبو يحيى الحمصي، روى له الجماعة; البخاري مستشهدا بحديث واحد.

                                                وقزعة بن يحيى أبو الغادية البصري، روى له الجماعة، وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: أنا مروان بن محمد الدمشقي، قال: ثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن عطية بن قيس ، عن قزعة بن يحيى ، عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا مؤمل بن الفضل الحراني، نا الوليد .

                                                وثنا محمود بن خالد، ثنا أبو مسهر، وثنا ابن السرح، نا بشر بن بكر .

                                                ونا محمد بن محمد بن مصعب، نا عبد الله بن يوسف، كلهم عن سعيد بن عبد العزيز ، عن عطية ، عن قزعة بن يحيى ، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقول -حين يقول سمع الله لمن حمده-: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء -قال مؤمل: ملء السموات- وملء الأرض وملء ما شئت من شيء [ ص: 298 ] بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد ، لا مانع لما أعطيت -زاد محمود: ولا معطي لما منعت، ثم اتفقا- ولا ينفع ذا الجد منك الجد".

                                                قال بشر: "ربنا لك الحمد". لم يقل محمود: "اللهم" قال: "ربنا ولك الحمد".

                                                وأخرجه النسائي : أنا عمرو بن هشام أبو أمية الحراني، قال: ثنا مخلد ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن عطية بن قيس ، عن قزعة بن يحيى ، عن أبي سعيد، أن رسول الله - عليه السلام - كان يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، حق ما قال العبد، وكلنا لك عبد ، لا نازع لما أعطيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".

                                                قوله: "أهل الثناء والمجد" وهو منصوب على النداء، والمعنى: يا أهل الثناء والمجد. وهو المشهور، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي أنت أهل الثناء، و"الثناء" الوصف الجميل والمدح، و"المجد" العظمة ونهاية الشرف.

                                                قال القاضي عياض: ووقع في رواية ابن ماهان: "أهل الثناء والحمد" وله وجه، ولكن المشهور الصحيح هو الأول.

                                                قوله: "أحق ما قال العبد، وكلنا" هكذا هو الراوية المشهورة "أحق" بالألف، "وكلنا" بالواو ولكن وقع في رواية النسائي: "حق" بدون الألف، ووقع في بعض روايات النسائي: "خير ما قال العبد".

                                                وقال بعض الأفاضل: هو الصحيح.

                                                ووقع في كتب الفقه: "حق ما قال العبد كلنا" بحذف "الألف" و"الواو"، [ ص: 299 ] فهذا غير معروف من حيث الرواية، وإن كان معناه صحيحا، والرواية المعروفة المشهورة: "أحق ما قال العبد وكلنا" ومعناه: أحق قول العبد "لا نازع لما أعطيت" فيكون ارتفاع "أحق" على الابتداء وخبره قوله: "لا نازع".

                                                قوله: "وكلنا لك عبد " جملة معترضة بينهما، وتقدير الكلام: أحق قول العبد: لا نازع لما أعطيت، أو "لا مانع لما أعطيت" وكلنا لك عبد فيجب أن نقوله.

                                                وفائدة الاعتراض: الاهتمام به وارتباطه بالكلام السابق، ونظيره في القرآن: فسبحان الله حين تمسون الآية فإن قوله: وله الحمد اعتراض بين قوله: وحين تصبحون و وعشيا والجملة المعترضة لا محل لها من الإعراب وقد عرف ذلك في موضعه.

                                                فإن قيل: ما وجه كون هذا أحق ما يقوله العبد؟

                                                قلت: لأن فيه التفويض إلى الله تعالى والإذعان له والاعتراف بوحدانيته، والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن الخير والشر منه.

                                                قوله: "لا نازع لما أعطيت" كذا في رواية النسائي أيضا كما ذكرناها، وفي رواية غيرهما: "لا مانع لما أعطيت" وكلاهما معنى واحد.

                                                قوله: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" أي لا ينفع ذا الغنى، منك غناه، وإنما ينفعه العمل بطاعتك، أو معناه: لا يسلمه من عذابك غناه.

                                                و"الجد" في اللغة: الحظ والسعادة والغنى، ومنه: "تعالى جدك". أي: علا جلالك وعظمتك. والمشهور فيه فتح الجيم، هكذا ضبطه العلماء المتقدمون والمتأخرون.

                                                وقال ابن عبد البر: ومنهم من رواه بالكسر، وقال أبو جعفر الطبري: هو بالفتح. قال: وقاله الشيباني بالكسر. قال: وهذا خلاف ما عرفه أهل النقل. قال: ولا نعلم من قاله غيره، وضعف الطبري ومن بعده الكسر.

                                                [ ص: 300 ] قالوا: ومعناه على ضعفه الاجتهاد، أي: لا ينفع ذا الاجتهاد منك اجتهاده، إنما ينفعه وينجيه رحمتك.

                                                وقيل: المراد: ذا الجد والسعي التام في الحرص على الدنيا.

                                                وقيل: معناه: الإسراع في الهرب، أي: لا ينفع ذا الإسراع في الهرب منك هروبه فإنه في قبضتك وسلطانك.

                                                فإن قيل: بين لي إعراب هذا الكلام؟

                                                قلت: "ذا الجد" منصوب على أنه مفعول "لا ينفع"، وكلمة "من" في قوله: "منك" للبدل كما في قوله تعالى: لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أي: بدل طاعة الله، أو بدل رحمة الله. وكما في قوله تعالى: أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة أي بدل الآخرة.

                                                وقوله: لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون أي: بدلكم; لأن الملائكة لا تكون من الإنس.

                                                وقال أبو حيان: إثبات البدلية لـ "من" فيه خلاف، وأصحابنا ينكرونه، وغيرهم قد أثبته، وزعم أنها تأتي لمعنى البدل، واستدل بالآيات التي تلونا وبقول الشاعر:


                                                [أخذوا] المخاض من الفصيل غلبة ... ظلما ويكتب للأمير أفيلا



                                                أي: بدل الفصيل -وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه- والجمع فصلان، والمخاض ما تمت له سنة وطعنت في الثانية، وغلبة -بضم الغين المعجمة واللام وتشديد الباء الموحدة المفتوحة -وهو مصدر من غلب يغلب وكذلك غلبى وغلابية وغلبا وغلبا بتسكين اللام وتحريكها، وغلبة ومغلبة، والأفيل -بفتح الهمزة وكسر [ ص: 301 ] الفاء- ابن المخاض وابن اللبون، ويجوز أن تكون "من" في الحديث بمعنى "عند" والمعنى: لا ينفع ذا الغنى عندك غناه.

                                                قلت: يجوز أن تكون "من" على حالها للابتداء، ويكون المعنى: لا ينفع ذا الغنى من ابتداء نقمتك أو من ابتداء عذابك غناه.

                                                ويقال: ضمن "ينفع" معنى "يمنع" ومتى علقت "من" بالجد انعكس المعنى.

                                                وأما ارتفاع قوله: "الجد" فعلى أنه فاعل قوله: "لا ينفع"




                                                الخدمات العلمية