الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : قال الحافظ : وجه التشبيه بين النخلة والمسلم من جهة عدم سقوط الورق ، ما رواه الحارث بن أبي أسامة في هذا الحديث من وجه آخر ، عن ابن عمر ، ولفظه قال : كنا عند [ ص: 140 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : «إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة ، أتدرون ما هي ؟ » قالوا : لا ، قال : «هي النخلة ، لا تسقط لها أنملة ، ولا يسقط للمؤمن دعوة» .

                                                                                                                                                                                                                              ووقع عند المصنف في باب الأطعمة من طريق الأعمش ، قال : حدثني مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجمار ، فقال : إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا أعم من الذي قبله ، وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها ، مستمرة في جميع أحوالها ، فمن حين تطلع إلى أن تيبس ، يؤكل أنواعا ، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها ، حتى النوى في علف الدواب ، والليف في الحبال وغير ذلك ، وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال وغيرها ، ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال : قال القرطبي : موقع التشبيه بينهما من جهة أن دين المسلم ثابت ، وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب ، وأنه لا يزال مستورا بدينه ، وأنه ينتفع بكل ما صدر منه حيا وميتا . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وقال غيره : والمراد بكون فرع المؤمن في السماء رفع عمله وقبوله .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البزار من طريق سفيان بن حسن ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل المؤمن مثل النخلة ، ما أتاك منها نفعك . هكذا أورده ، وإسناده صحيح ، وقد أفصح بالمقصود بأوجز عبارة .

                                                                                                                                                                                                                              وأما من زعم أن موقع التشبيه من جهة كون النخلة إذا وقع رأسها ماتت ، أو أنها لا تحمل حين تلقح ، أو أنها تموت إذا غرقت ، أو لأن لطلعها رائحة مني الآدميين ، أو لكونها تعشق ، أو لكونها تشرب من أعلاها ، فكلها أوجه ضعيفة؛ لأن جميع ذلك من المتشابهات مشترك بالآدميين ، لا يختص بالمسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وأضعف من ذلك قول من زعم أن ذلك لكونها خلقت من فضلة طين آدم؛ فإن الحديث في ذلك لم يثبت .

                                                                                                                                                                                                                              وقول سيدنا عمر : «أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا» زاد ابن حبان في صحيحه : أحسبه قال : «حمر النعم» وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى من تبليغه لهم إن لم يفهموه .

                                                                                                                                                                                                                              وأما ما رواه أبو داود من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأغلوطات ، قال الأوزاعي أحد رواته : هي صعاب المسائل - أن ذلك محمول على ما لا نفع فيه ، أو ما خرج على سبيل تعنت المسؤول ، أو تعجيزه ، وفيه التحريض على الفهم في العلم ، وفيه دليل على بركة النخلة وما تثمره ، وفيه دليل على أن بيع الجمار جائز؛ لأن كل ما جاز أكله جاز بيعه ، وفيه دليل على جواز تجمير النخل ، وفيه ضرب من الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام ، وتصوير المعاني؛ لترسخ في الذهن ، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة ، وفيه إشارة إلى أن تشبيه [ ص: 141 ] الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره في جميع وجوهه؛ فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله ، وفيه توقير الكبير ، وتقديم الصغير أباه في القول ، وأنه لا يبادره بما فهمه ، وإن ظن أنه الصواب ، وفيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه؛ لأن العلم مواهب ، والله يؤتي فضله من يشاء .

                                                                                                                                                                                                                              واستدل به مالك على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها لله ، وذلك مستفاد من تمني عمر المذكور ، ووجه تمني عمر ما طبع الإنسان عليه من محبة الخير لنفسه ولولده ، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم في صغره ، وليزداد من النبي صلى الله عليه وسلم حظوة ، ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم ، وفيه الإشارة إلى حقارة الدنيا في عين عمر؛ لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم ، مع عظيم مقدارها وغلاء ثمنها . انتهى كلام الحافظ مع تقديم وتأخير .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : قوله «يتخولنا» بالخاء المعجمة أي : يتعهدنا .

                                                                                                                                                                                                                              والموعظة : النصح والتذكير ، قال الحافظ : قال الخطابي : الخائل : بالخاء المعجمة هو القائم المتعهد للمال ، يقال : خال المال يخوله تخولا إذا تعهده وأصلحه ، والمعنى : كان يراعي الأوقات في تذكيره ، ولا يفعل ذلك كل يوم؛ لئلا نمل ، والتخون بالنون أيضا . وحكى الهروي في الغريبين : يتحولنا -بالحاء المهملة- أي : يتطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : والصواب من حيث الرواية الأول .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : «علينا» أي : الطارئة علينا ، أو ضمن السآمة معنى المشقة ، فعداها بعلى ، والصلة محذوفة ، والتقدير : من الموعظة .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : قوله : «الفتيا» قال الحافظ : (بضم الفاء) ، فإن قلت : الفتوى فتحتها ، والمصادر الآتية بوزن فتيا قليلة ، مثل : تقيا ورجعى ، وقوله : فجاءه رجل ، لم أعرف اسم هذا السائل ولا الذي بعده ، والظاهر أن الصحابي لم يسم أحدا لكثرة من سأل إذ ذاك .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : «ولا حرج» أي : لا شيء عليك من الإثم لا في الترتيب ولا في ترك الفدية ، هذا ظاهر . وقول بعض الفقهاء : المراد في الإثم فقط ، وفيه نظر؛ لأن في بعض الروايات الصحيحة : ولم يأمر بكفارة .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : قوله : «لا أكاد أدرك الصلاة» قال الحافظ : قال القاضي عياض : ظاهره مشكل ، إذ [ ص: 142 ] التطويل يقتضي الإدراك لا عدمه ، قال : فكأن الألف زيدت بعد «لا» قلت : هو توجيه حسن لو ساعدته الرواية .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو الزناد بن سراج : معناه أنه كان به ضعف ، وكان إذا طول به الإمام في القيام لا يبلغ الركوع إلا وقد ازداد ضعفه ، فلا يكاد يتم معه الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وهو معنى حسن ، لكن رواه المصنف عن الفريابي عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ : «إني لأتأخر عن الصلاة» أي : لا أقرب من الصلاة في الجماعة بل أتأخر أحيانا من أجل التطويل .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : قوله «لم يبلغوا الحنث» قال الحافظ : المعنى أنهم قد ماتوا قبل أن يبلغوا؛ لأن الإثم إنما يكتب بعد البلوغ ، فكأن السر فيه إنما أنه لا ينسب إليهم إذ ذاك عقوق ، فيكون الحزن عليهم .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الحديث ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعاليم من أمور دينهم ، وجواز كلام النساء مع الرجال في ذلك ، وفيه جواز الوعد ، وأن أطفال المسلمين في الجنة ، وأن من له ولدان حجباه من النار ، ولا اختصاص لذلك بالنساء . انتهى . وكذلك لم يبلغ الحنث .

                                                                                                                                                                                                                              السادس : قوله «صدقا» قال الحافظ ، احتراز من شهادة المنافق . قال الطيبي : «صدقا» هنا أقيم مقام الاستقامة؛ لأن الصدق يعبر عنه قولا من مطابقة القول المخبر عنه ، ويعبر به فعلا عن تحري الأخلاق المرضية ، كقوله تعالى : والذي جاء بالصدق وصدق به [الزمر : 33] أي : خفف ما أورده قولا بما تحراه فعلا . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وأراد بهذا التقرير رفع الإشكال عن ظاهر الخبر؛ لأنه يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار؛ لما فيه من التعميم والتأكيد ، لكن دلت الأدلة القطعية عند أهل السنة على أن طائفة من عصاة المؤمنين يعذبون ، ثم يخرجون من النار بالشفاعة ، فعلم أن ظاهره غير مراد ، فكأنه قال : إن ذلك مقيد بمن عمل الأعمال الصالحة ، ولأجل خفاء ذلك لم يؤذن في التبشير به .

                                                                                                                                                                                                                              وقد أجاب العلماء عن الإشكال أيضا بأجوبة أخرى :

                                                                                                                                                                                                                              منها : أن مطلقه مقيد بمن قالها تاما ، ثم مات على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها : أن ذلك كان قبل نزول أكثر الفرائض ، وفيه نظر؛ لأن مثل هذا الحديث وقع لأبي هريرة ، كما رواه مسلم ، وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض ، وكذا أورد نحوه من حديث أبي موسى ، رواه أحمد بإسناد حسن ، وكان قدومه في السنة التي قدم فيها أبو هريرة .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها : أنه خرج مخرج الغالب؛ إذ الغالب أن الموحد يعمل الطاعة ، ويجتنب المعصية .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها : أن المراد بتحريمه على النار تحريم خلوده فيها لا أصل دخولها .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها : أن المراد بالنار التي أعدت للكافرين لا الطبقة التي أفردت لعصاة الموحدين .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 143 ] ومنها : أن المراد بتحريمه على النار حرمة جملته؛ لأن (المراد) أن النار لا تأكل موضع السجود من المسلم ، كما ثبت في حديث الشفاعة أن ذلك محرم عليها ، وكذا لسانه الناطق بالتوحيد . والعلم عند الله .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : «إذا يتكلوا» -بتشديد المثناة المفتوحة وكسر الكاف- وهو جواب وجزاء ، أي : إن أخبرتهم يتكلوا ،وللأصيلي وللكشميهني «ينكلوا» بإسكان النون وضم الكاف ، أي يمتنعوا من العمل اعتمادا على ما يتبادر من ظاهره .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البزار بإسناد حسن من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لمعاذ في التبشير ، فلقيه عمر ، فقال : لا تعجل ، ثم دخل ، فقال : يا نبي الله ، أنت أفضل رأيا ، إن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها قال : فرده .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا معدود من موافقات عمر -رضي الله تعالى عنه- وفيه جواز الاجتهاد بحضرته صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              واستدل بعض متكلمي الأشاعرة من قوله «يتكلوا» على أن للعبد اختيارا كما سبق في علم الله .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله «تأثما» هو بفتح الهمزة وتشديد المثلثة المضمومة ، أي : خشية الوقوع في الإثم الحاصل في كتمان العلم ، ودل صنع معاذ على أن النهي في التبشير كان على التنزيه لا على التحريم ، وإلا لما كان يخبر به أصلا ، أو عرف أن النهي مقيد بالإشكال ، وأخبر به من لا يخشى عليه ذلك ، وإذا زال القيد زال المقيد ، والأول أوجه؛ لكونه أخر ذلك إلى وقت موته . وقال القاضي عياض : لعل مراد «معاذ» لم يفهم النهي ، لكن كسر عزمه عما عرض له من تبشيرهم .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : والرواية الآتية صريحة في النهي ، فالأولى ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الحديث جواز الإرداف ، وإثبات تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنزلة معاذ بن جبل من العلم؛ لأنه خصه بما ذكر ، وفيه جواز استفسار الطالب عما تردد فيه ، واستئذانه في إشاعة ما يعلم به وحده .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله «من لقي الله» أي : من لقي الأجل الذي قدره الله ، يعني الموت ، وقوله : «لا يشرك به» اقتصر على نفي الإشراك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله ، ومن كذب الله فهو مشرك . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              السابع : قوله : «لا يلبس» قال الحافظ : قال ابن دقيق العيد ، في الحديث : العدول عما لا ينحصر إلى ما ينحصر طلبا للإيجار؛ لأن السائل سأل عما يلبس فأجيب بما لا يلبس؛ إذ الأصل الإباحة ، ولو عدد له ما يلبس لطال ، بل كان لا يؤمن أن يتمسك بعض السامعين بمفهومه فيظن اختصاصه بالمحرم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 144 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية