الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيه :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : أعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن الحدود كفارات ، وأن تبعا مسلم ، كما روى الإمام أحمد والبخاري والدارقطني عن خزيمة بن ثابت مرفوعا بإسناد حسن ، وروى أحمد والطبراني بسند حسن عن سهل بن سعد مرفوعا : «لا تسبوا تبعا؛ فإنه قد أسلم» .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : في تعقيبه صلى الله عليه وسلم الفطر إلى من سأل عن شيء أعجبه

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والطبراني برجال ثقات عن أبي ثعلبة الخشني -رضي الله تعالى عنه- قال : قلت : يا رسول الله ، أخبرني بما يحل لي ، وما يحرم علي ، قال : فصعد المنبر ، وأخذ يصوب في النظر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البر ما سكنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ، ولم يطمئن إليه القلب ، وإن أفتاك المفتون .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : في طرحه صلى الله عليه وسلم المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بجمار ، فقال : إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنها -وفي لفظ : وهي- مثل المسلم ، حدثوني ما هي ؟ فوقع الناس في شجر البوادي ، وفي لفظ : البادية ، قال عبد الله : فوقع في نفسي أنها النخلة ، فاستحييت ، فقالوا : يا رسول الله أخبرنا ، وفي لفظ : حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ قال : «هي النخلة» ، قال عبد الله : فحدثت أبي بما وقع في نفسي ، فقال : لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : في تخوله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الموعظة والعلم كي لا ينفروا

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : في فتياه صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الدابة وغيرها

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه ، فجاءه رجل ، فقال : لم أشعر ، فحلقت قبل أن أذبح ؟ فقال : اذبح ولا حرج ، فجاء آخر فقال : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي ؟ فقال ارم ولا حرج ، فما [ ص: 136 ] سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : افعل ولا حرج .

                                                                                                                                                                                                                              السادس : في إجابته صلى الله عليه وسلم بإشارة اليد والرأس

                                                                                                                                                                                                                              عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل في حجة الوداع ، فقال : ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده ، وقال : لا حرج ، وقال : حلقت قبل أن أذبح وأومأ بيده ولا حرج .

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يقبض العلم ، ويظهر الجهل والفتن ، ويكثر الهرج» ، قيل : يا رسول الله ، وما الهرج ، فقال بيده فحرفها ، كأنه يريد القتل . رواهما البخاري .

                                                                                                                                                                                                                              السابع : في ترجيعه صلى الله عليه وسلم بمن قعد عليه يطلب الخير

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن وفد قيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من الوفد أو من القوم ربيعة ؟ فقال : مرحبا بالوفد أو بالقوم غير خزايا ولا ندامى . الحديث . وتقدم بتمامه في وفودهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوفود .

                                                                                                                                                                                                                              الثامن : في غضبه صلى الله عليه وسلم في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكرهه

                                                                                                                                                                                                                              روى البخاري عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله تعالى عنه- قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان ، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة أشد غضبا منه يومئذ ، فقال : أيها الناس ، إنكم منفرون وفي رواية : «إن منكم منفرين» فمن صلى بالناس فليخفف؛ فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة .

                                                                                                                                                                                                                              وعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة ، فقال : اعرف وكاها أو قال وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة ، ثم استمتع بها ، فإن جاء ربها فأدها إليه . قال : فضالة الإبل ؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه ، أو قال : احمر وجهه ، فقال : ما لك ولها ، وفي لفظ : فما لك ولها ، معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وترعى الشجر ، فذرها حتى يلقاها ربها . قال : فضالة الغنم ؟ قال : لك ولأخيك أو للذئب .

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي موسى -رضي الله تعالى عنه- قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها ، فلما أكثروا عليه غضب ، ثم قال للناس : سلوني عما شئتم ، قال رجل : من أبي ؟ قال : أبوك حذافة ، فقام آخر فقال : من أبي يا رسول الله ؟ فقال : أبوك سالم مولى شيبة . فلما رأى عمر ما في وجهه برك على ركبته ، وقال : رضينا بالله ربا [ ص: 137 ] وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، يا رسول الله ، إنا نتوب إلى الله- عز وجل- فسكت . رواه البخاري .

                                                                                                                                                                                                                              وروى مسدد وإسحاق وابن أبي شيبة عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال : قلت : يا نبي الله ، أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان أم في غير رمضان ؟ قال : بل هي في رمضان ، قلت : تكون مع الأنبياء إذا كانوا ، فإذا قبضوا رفعت ، قال : بل هي إلى يوم القيامة ، قلت : في أي رمضان ؟ قال : التمسوها في العشر الأوسط والعشر الأواخر ، ولا تسألوني عن شيء بعدها ، ثم حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث ، ثم اهتبلت غفلته فقلت : يا رسول الله ، أقسمت بحقي عليك لما أخبرتني في أي عشر هي ، فغضب غضبا ما رأيته غضب مثله ، فقال : التمسوها في السبع الأواخر الباقين ، ولا تسألني عن شيء بعدها .

                                                                                                                                                                                                                              التاسع : في إعادته صلى الله عليه وسلم الحديث ثلاثا ليفهم عنه .

                                                                                                                                                                                                                              عن أنس -رضي الله تعالى عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا ، حتى نفهم عنه ، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم يسلم عليهم ثلاثا .

                                                                                                                                                                                                                              وعن عبد الله بن عمرو قال : تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا ، وقد أرهفتنا الصلاة ، صلاة العصر ، ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار ، مرتين أو ثلاثا . رواه البخاري .

                                                                                                                                                                                                                              العاشر : في جعله صلى الله عليه وسلم يوما للنساء على حقه في العلم

                                                                                                                                                                                                                              عن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال : قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : غلبنا عليك الرجال ، فاجعل لنا يوما من نفسك ، فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن ، فكان فيما قال لهن : ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار ، فقالت امرأة : أو اثنين ؟ فقال : واثنين . وفي لفظة : أو ثلاثة لم يبلغوا الحنث . رواه البخاري .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 138 ] الحادي عشر : في تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا

                                                                                                                                                                                                                              عن أنس -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل فقال : يا معاذ بن جبل ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك ، قال : يا معاذ ، قال : لبيك وسعديك ثلاثا ، قال : ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار ، قال : يا رسول الله ، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا ؟ قال : إذن يتكلوا ، وأخبر بها عند موته تأثما .

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ، قال : ألا أبشر الناس ؟ قال ، لا؛ إني أخاف أن يتكلوا . رواه البخاري .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني عشر : في إجابته صلى الله عليه وسلم السائل بأكثر مما سأله

                                                                                                                                                                                                                              عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم ؟ فقال : لا يلبس القميص ، ولا العمامة ولا السراويل والبرنس ، ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران ، فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين ، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين . رواه البخاري .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث عشر : في أخذه صلى الله عليه وسلم بيده بعض من سأله

                                                                                                                                                                                                                              روى الحارث وابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي قتادة وأبي الدهماء ، قالا : أتينا على رجل من أهل البادية ، فقال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، فجعل يعلمني مما علمه الله ، فكان مما حفظت أن قال : لا تدع شيئا اتقاء الله إلا أبدلك الله خيرا منه .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع عشر : في قعوده لاستماع قاص يقص عليه

                                                                                                                                                                                                                              روى الإمام أحمد وأبو يعلى عن أبي أمامة -رضي الله تعالى عنه- قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على جماعة لهم قاص يقص ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قص ، ثم قال : لأن أقعد هذا المقعد غدوة حتى تشرق الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس عشر : في اتخاذه صلى الله عليه وسلم ممليا ليعبر عنه

                                                                                                                                                                                                                              روى مسدد برجال ثقات عن هلال بن عامر المزني ، عن أبيه- رضي الله تعالى عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يخطب على بغلة وعليه برد أحمر ، وعلي -رضي الله تعالى عنه- أمامه [ ص: 139 ] يعبر عنه ما يقول ، فجئت حتى دخلت بين شراك النبي صلى الله عليه وسلم وقدمه ، فجعلت أعجب من بردها .

                                                                                                                                                                                                                              روى أحمد وأبو داود مختصرا والطبراني برجال ثقات عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف ، فقام تحت يدي ناقته ، وكان رجلا صيتا ، فقال : اصرخ ، أيها الناس ، أتدرون : أي شهر هذا ؟ فصرخ ، فقال الناس : الشهر الحرام ، فقال : اصرخ ، أي بلد هذا ؟ قالوا : البلد الحرام ، قال : اصرخ ، أي يوم هذا ؟ قالوا : الحج الأكبر ، فقال : اصرخ ، فقل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة شهركم هذا ، وكحرمة بلدكم هذا . الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              السادس عشر : في إجابته صلى الله عليه وسلم الأول من السائلين

                                                                                                                                                                                                                              روى سعيد بن منصور وابن حبان عن ابن عمر وأبو الوليد الأزرقي ، عن أنس -رضي الله تعالى عنه- أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كلمات أسأل عنهن قال : اجلس ، وجاء آخر من ثقيف فقال : يا رسول الله ، كلمات أسأل عنهن ، فقال صلى الله عليه وسلم : «سبقك الأنصاري» ، فقال الأنصاري : إنه رجل غريب ، وإن للغريب حقا ، فابدأ به ، فأقبل على الثقفي فقال : إن شئت أنبأتك عما كنت تسألني ، وإن شئت تسألني وأخبرك ، فقال : يا رسول الله ، أجبني عما كنت أسألك ، قال : جئت تسألني عن الركوع والسجود والصلاة والصوم ، فقال : لا ، والذي بعثك بالحق ، ما أخطأت مما كان في نفسي شيئا . فذكر الحديث ، ويأتي بطوله في المعجزات .

                                                                                                                                                                                                                              السابع عشر : في إدنائه السائل إليه صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو يعلى عن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال جاء شاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله ، علمني دعاء أصيب به خيرا ، قال : ادنه ، فدنا حتى كادت ركبته تمس ركبة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : قل : اللهم اعف عني فإنك عفو تحب العفو ، وأنت عفو كريم .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية