فصل : [ الهجرة إلى الحبشة ]
ولما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ينال أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بما يسره الله تعالى من دفاع عمه
أبي طالب ، قال لأصحابه :
لو خرجتم إلى أرض الحبشة : فإن بها ملكا عادلا إلى أن يجعل الله لكم فرجا فهاجر إليها من خاف على دينه ، وهي
nindex.php?page=treesubj&link=29287أول هجرة هاجر إليها المسلمون ، فكان أول من خرج منهم - وذلك في رجب سنة خمس من المبعث أحد عشر رجلا ، وأربع نسوة ، منهم
عثمان بن عفان وامرأته "
nindex.php?page=showalam&ids=10733رقية " بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ،
والزبير بن العوام ،
وعبد الرحمن بن عوف ،
ومصعب بن عمير ،
وعثمان بن مظعون ، ثم خرج في أثرهم
جعفر بن أبي طالب في جماعة صاروا مع المتقدمين اثنين وثمانين نفسا ، وصادفوا من
النجاشي ما حمدوه ، وكان قد أسلم قبل ذلك
عمر بن الخطاب ، ثم أسلم بعد ذلك
حمزة بن عبد المطلب ،
فجهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن في صلاته حين أسلم حمزة ، ولم يكن يجهر قبل إسلامه ، وقوي به المسلمون ، وقرأ
عبد الله بن مسعود سورة الرحمن على المقام جهرا حتى سمعتها
قريش ، فنالوه بالأيدي ،
فلما رأت قريش من يدخل منهم في الإسلام ، وعدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطوه مالا ، ويزوجوه من شاء من نسائهم ، ويكونوا تحت عقبه : ويكف عن ذكر آلهتهم ، قالوا : فإن لم يفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة لنا ولك فيها صلاح ، أن تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة فقال : حتى أنظر ما يأتيني به ربي فأنزل الله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قل ياأيها الكافرون nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لا أعبد ما تعبدون nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=3ولا أنتم عابدون ما أعبد . [ الكافرون : ا - 3 ] . إلى آخر السورة فكف عن ذلك .
[ ص: 12 ] وكان يتمنى من ربه أن يقارب قومه ، ويحرص على صلاحهم بما وجد إليه السبيل ، فأنزل الله تعالى عليه سورة " النجم " فقرأها على
قريش حتى بلغ إلى قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=19أفرأيتم اللات والعزى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=20ومناة الثالثة الأخرى [ النجم : 19 - 20 ] . ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، وانتهى إلى السجدة فسجد فيها ، وسجد معه المسلمون اتباعا لأمره ، وسجد من في المسجد من المشركين لما سمعوه من مدح آلهتهم ، وكان
الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا لا يستطيع السجود فأخذ بيده
[ ص: 13 ] [ ص: 14 ] [ ص: 15 ] [ ص: 16 ] حفنة من البطحاء ، فسجد عليها ، وتفرق الناس من المسجد متقاربين قد سر المشركون ، وسكن المسلمون ، وبلغت السجدة من بأرض
الحبشة من المسلمين ، وقالوا : أسلمت
قريش : فنهض منهم رجال قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأخر آخرون ، وأتى
جبريل - عليه السلام - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا
محمد ، ماذا صنعت ؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به ، فحزن حزنا شديدا ، وخاف من الله خوفا كثيرا ، فأنزل الله تعالى عليه ما عذره فيه ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم [ الحج : 52 ] . ونسخ ما ألقاه الشيطان على لسانه بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=21ألكم الذكر وله الأنثى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=22تلك إذا قسمة ضيزى [ النجم : 22 ] فقالت
قريش حين سمعوا النسخ : ندم
محمد على ما ذكر من مدح آلهتنا ، وجاء بغيره فازدادوا شرا وشدة على من أسلم ، وقدم من عاد من أرض
الحبشة ، وعرفوا قبل دخول
مكة ما نسخ من إلقاء الشيطان ، فمنهم من رجع إلى أرض
الحبشة من طريقه ، ومنهم من دخل
مكة مستخفيا ، ومنهم من دخلها في جوار ، فدخل
عثمان بن عفان وزوجته
رقية رضي الله عنهما في جوار
عتبة بن ربيعة ، ودخل
عثمان بن مظعون في جوار
الوليد بن المغيرة ، ودخل
جعفر بن أبي طالب ،
وعبد الله بن مسعود سرا ، وكان جميعهم ثلاثة وثلاثين نفسا ، ثم عادوا وغيرهم إلى أرض
الحبشة إلا
عثمان بن عفان : فإنه أقام حتى هاجر إلى
المدينة ، وهذه هي الهجرة الثانية إلى أرض
الحبشة .
فَصْلٌ : [ الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ ]
وَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَنَالُ أَصْحَابُهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ دِفَاعِ عَمِّهِ
أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ :
لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ : فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا عَادِلًا إِلَى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجَا فَهَاجَرَ إِلَيْهَا مَنْ خَافَ عَلَى دِينِهِ ، وَهِيَ
nindex.php?page=treesubj&link=29287أَوَّلُ هِجْرَةٍ هَاجَرَ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ - وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْمَبْعَثِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا ، وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ ، مِنْهُمْ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَامْرَأَتُهُ "
nindex.php?page=showalam&ids=10733رُقَيَّةُ " بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ،
وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ،
وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ،
وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ
جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي جَمَاعَةٍ صَارُوا مَعَ الْمُتَقَدِّمِينَ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ نَفْسًا ، وَصَادَفُوا مِنَ
النَّجَاشِيِّ مَا حَمِدُوهُ ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ
حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ،
فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْآنِ فِي صَلَاتِهِ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ ، وَلَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ ، وَقَوِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ، وَقَرَأَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ الرَّحْمَنِ عَلَى الْمَقَامِ جَهْرًا حَتَّى سَمِعَتْهَا
قُرَيْشٌ ، فَنَالُوهُ بِالْأَيْدِي ،
فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ مَنْ يَدْخُلُ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ، وَعَدُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْطُوهُ مَالًا ، وَيُزَوِّجُوهُ مَنْ شَاءَ مِنْ نِسَائِهِمْ ، وَيَكُونُوا تَحْتَ عَقِبِهِ : وَيَكُفَّ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ ، قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً لَنَا وَلَكَ فِيهَا صَلَاحٌ ، أَنْ تَعْبُدَ آلِهَتَنَا سَنَةً ، وَنَعْبُدَ إِلَهَكَ سَنَةً فَقَالَ : حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي بِهِ رَبِّي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=3وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . [ الْكَافِرُونَ : ا - 3 ] . إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَكَفَّ عَنْ ذَلِكَ .
[ ص: 12 ] وَكَانَ يَتَمَنَّى مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُقَارِبَ قَوْمَهُ ، وَيَحْرِصُ عَلَى صَلَاحِهِمْ بِمَا وَجَدَ إِلَيْهِ السَّبِيلَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ سُورَةَ " النَّجْمِ " فَقَرَأَهَا عَلَى
قُرَيْشٍ حَتَّى بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=19أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=20وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [ النَّجْمِ : 19 - 20 ] . أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ : تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى ، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى ، وَانْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَ فِيهَا ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ اتِّبَاعًا لِأَمْرِهِ ، وَسَجَدَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِمَا سَمِعُوهُ مِنْ مَدْحِ آلِهَتِهِمْ ، وَكَانَ
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ
[ ص: 13 ] [ ص: 14 ] [ ص: 15 ] [ ص: 16 ] حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ ، فَسَجَدَ عَلَيْهَا ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ مُتَقَارِبِينَ قَدْ سَرَّ الْمُشْرِكُونَ ، وَسَكَنَ الْمُسْلِمُونَ ، وَبَلَغَتِ السَّجْدَةُ مَنْ بِأَرْضِ
الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَالُوا : أَسْلَمَتْ
قُرَيْشٌ : فَنَهَضَ مِنْهُمْ رِجَالٌ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَأَخَّرَ آخَرُونَ ، وَأَتَى
جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا
مُحَمَّدُ ، مَاذَا صَنَعْتَ ؟ لَقَدْ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ ، فَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا ، وَخَافَ مِنَ اللَّهِ خَوْفًا كَثِيرًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مَا عَذَرَهُ فِيهِ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ الْحَجِّ : 52 ] . وَنَسَخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=21أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=22تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [ النَّجْمِ : 22 ] فَقَالَتْ
قُرَيْشٌ حِينَ سَمِعُوا النَّسْخَ : نَدِمَ
مُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ مَدْحِ آلِهَتِنَا ، وَجَاءَ بِغَيْرِهِ فَازْدَادُوا شَرًّا وَشِدَّةً عَلَى مَنْ أَسْلَمَ ، وَقَدِمَ مَنْ عَادَ مَنْ أَرْضِ
الْحَبَشَةِ ، وَعَرَفُوا قَبْلَ دُخُولِ
مَكَّةَ مَا نُسِخَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ إِلَى أَرْضِ
الْحَبَشَةِ مِنْ طَرِيقِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ
مَكَّةَ مُسْتَخْفِيًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَهَا فِي جِوَارٍ ، فَدَخَلَ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَوْجَتُهُ
رُقَيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي جِوَارِ
عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَدَخَلَ
عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي جِوَارِ
الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَدَخَلَ
جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ سِرًّا ، وَكَانَ جَمِيعُهُمْ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ نَفْسًا ، ثُمَّ عَادُوا وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَرْضِ
الْحَبَشَةِ إِلَّا
عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ : فَإِنَّهُ أَقَامَ حَتَّى هَاجَرَ إِلَى
الْمَدِينَةِ ، وَهَذِهِ هِيَ الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ إِلَى أَرْضِ
الْحَبَشَةِ .