الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولا يجوز أن يهادنهم على أن يعطيهم المسلمون شيئا بحال لأن القتل للمسلمين شهادة ، وأن الإسلام أعز من أن يعطى مشرك على أن يكف عن أهله لأن أهله قاتلين ومقتولين ظاهرون على الحق إلا في حال [ ص: 354 ] يخافون الاصطلام فيعطون من أقوالهم أو يفتدي مأسورا فلا بأس لأن هذا موضع ضرورة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، والأولى من الهدنة أن تعقد على مال يبذله المشركون لنا إذا أجابوا إليه ، فإن تعذرت إجابتهم إليه ، ودعت الحاجة إلى مهادنتهم على غير مال جاز ، فأما عقدها على مال يحمله المسلمون إليهم ، فلا يجوز : لأن الله تعالى قد أعز الإسلام وأهله ، وأظهره على الأديان كلها ، وجعل لهم الجنة قاتلين ومقتولين ، لقول الله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون [ التوبة : 111 ] فلم يجز مع ثواب الشهادة وعز الإسلام أن يدخلوا في ذلك البذل وصغار الدفع ما لم تدع ضرورة إليه ، فإن دعت إليه الضرورة ، وذلك في إحدى حالتين .

                                                                                                                                            إما أن يحاط بطائفة من المسلمين في قتال أو وطء يخافون معه الاصطلام ، فلا بأس أن يبذلوا في الدفع عن اصطلامهم مالا ، يحقنون به دماءهم ، قد هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الخندق أن يصالح المشركين على الثلث من ثمار المدينة ، وشاور الأنصار ، فقال : إن كان هذا بأمر الله سمعنا وأطعنا وإن كان بغير أمره لم نقبله .

                                                                                                                                            وروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن الحارث بن عمرو الغطفاني رئيس غطفان قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن جعلت لي شطر ثمار المدينة وإلا ملأتها عليك خيلا ورجلا ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : حتى أستأذن السعود ، يعني سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وأسعد بن زرارة فاستأمرهم فقالوا : إن كان هذا بأمر من السماء ، فنسلم لأمر الله ، وإن كان برأيك ، فرأينا تبع لرأيك وإن لم يكن بأمر من السماء ، ولا برأيك فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية ثمرة إلا بشرى أو قرى ، فكيف ، وقد أعزنا الله بك فقال له : هو ذا تسمع ما يقولون ، ولم يعطه شيئا ، فهو وإن لم يعطهم فقد نبه بالرجوع إلى الأنصار على جواز عطائهم عند الضرورة ، ولأن ما ينال المسلمين من نكاية الاصطلام أعظم ضررا من ذلة البذل ، فافتدى به أعظم الضررين .

                                                                                                                                            والحال الثانية : افتداء من في أيديهم من الأسرى إذا خيف على نفوسهم ، وكانوا يستذلونهم بعذاب أو امتهان ، فيجوز أن يبذل لهم الإمام في افتكاكهم مالا ليستنقذهم به من الذلة والخطر ، وإن افتداهم بأسرى كان أولى .

                                                                                                                                            وروى أبو المهلب عن عمران بن الحصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فادى رجلا برجلين .

                                                                                                                                            وما بذله المسلمون من مال في اصطلام أو فداء فهو كالمغصوب لأخذه منهم جبرا بغير حق فإن ظفر به المسلمون عنوة لم يغنموه ، وأعيد إلى مستحقه الذي خرج منه من مال مسلم ، أو من بيت المال ، وإن وجدوه مع مستأمن نظر فيه ، فإن كان سبب [ ص: 355 ] بذله باقيا لم يسترجع منه : لما في استرجاعه من عود الضرر ، وإن زال سبب بذله استرجع منه وأعيد إلى مستحقه ، ولم يعترض عليه في غيره من أمواله لأمانه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية