الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وكذلك رد السلام ودفن الموتى والقيام بالعلم ونحو ذلك ، فإذا قام بذلك من فيه الكفاية : لم يحرج الباقون ، وإلا حرجوا أجمعون " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وإنما ذكر هذا ، وإن لم يكن من أحكام الجهاد : لأنه من فروض الكفايات بالجهاد فذكر ثلاثة أشياء : رد السلام ، ودفن الموتى ، وطلب العلم .

                                                                                                                                            فأما السلام ، فيتعلق به حكمان :

                                                                                                                                            أحدهما : في ابتدائه .

                                                                                                                                            والثاني : في رده .

                                                                                                                                            فأما ابتداؤه فينقسم ثلاثة أقسام : أدب ، وسنة ، ومختلف فيه .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول : وهو الأدب ، فسلام المتلاقيين ، وهو خاص ، وليس بعام : لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به كل منهم ، ويخرج به عن العرف ، وإنما يقصد به أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكسب به ودا ، وإما أن يستدفع به بذءا .

                                                                                                                                            قال الله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن [ المؤمنون : 96 ] . فقيل في تأويله :

                                                                                                                                            ادفع بالسلام إساءة المسيء : فصار هذا السلام خاصا وليس بعام ، وكان من آداب الشرع لا من سننه : لأنه يفعله لاجتلاب تآلف ، والأولى في ابتداء هذا السلام أن يبدأ به الصغير على الكبير ، والراكب على الماشي ، والقائم على القاعد : لأن ذلك مروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن استويا فأيهما بدأ به كان له فضل التحية .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو سلام السنة ، فهو سلام القاصد على المقصود ، وهو عام يبتدئ به كل قاصد على كل مقصود من صغير وكبير ، وراكب وماش ، قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتدئ بالسلام إذا قصد ، ويبتدئ به إذا لقي وقصد وهو من سنن الشرع : لأنه مندوب إليه لغير سبب مجتلب ، وبينه وبين سلام الأدب فرقان :

                                                                                                                                            أحدهما : عموم هذا وخصوص ذاك .

                                                                                                                                            والثاني : تعيين المبتدئ بهذا وتكافؤ ذاك ، وهو ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون المقصود واحدا فيتعين السلام عليه من القاصد ، ويتعين الرد فيه على المقصود .

                                                                                                                                            [ ص: 146 ] والضرب الثاني : أن يكون المقصود جماعة ، فذلك ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون عدد الجماعة قليلا يعمهم السلام الواحد فليس يحتاج في قصدهم إلى أكثر من سلام واحد يقيم به سنة السلام ، وما زاد عليه من تخصيص بعضهم فهو أدب وليس يلزم رد السلام إلا من واحد ومن زاد عليه فهو من أدب .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون جمعا لا ينتشر فيهم سلام الواحد كالجامع والمسجد الحافل بأهله ، فسنة السلام أن يبتدئ به الداخل في أول دخوله إذا شاهد أوائلهم ، ويؤدي سنة السلام جميع من سمعه ، ويدخل في فرض الكفاية - الرد - جميع من سمعه ، فإذا أراد الجلوس فيهم سقطت عنه سنة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين ، وإن أراد أن يجلس فيمن بعدهم ممن لم يسمعوا سلامه المتقدم ، ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن سنة السلام عليهم قد سقطت بالسلام على أوائلهم : لأنهم جمع واحد فإن سلم عليهم كان أدبا ، فعلى هذا إذا أحد أهل المسجد رد عليه سقط به فرض الكفاية عن جميعهم .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن سنة السلام باقية عليه فيمن لم ينتشر فيهم سلامه إذا أراد الجلوس بينهم لأنهم بسلامه أخص ، فعلى هذا لا يسقط فرض الرد عن الأوائل برد الأواخر .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو المختلف فيه فسلام القاصد إذا لزمه الاستئذان على المقصود ، فيؤمر القاصد بالاستئذان والسلام لقول الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها [ النور : 27 ] . وفي قوله : حتى تستأنسوا ، تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : يعني حتى تستأذنوا ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                            والثاني : حتى تعلموا أن فيها من يأذن لكم من قوله : آنس من جانب الطور نارا [ القصص : 29 ] . أي : علم ، قاله ابن قتيبة ، وفيما يبتدئ به من الاستئذان والسلام وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يبدأ بالاستئذان قبل السلام لقوله تعالى : حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها [ النور : 27 ] . فعلى هذا يكون الاستئذان واجبا والسلام سنة .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن يبدأ بالسلام قبل الاستئذان : لأنه وإن كان مقدما في التلاوة فهو مؤخر في الحكم لرواية محمد بن سيرين : أن رجلا استأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل : " قم " فعلم هذا كيف يستأذن فإنه لم يحسن ، فسمعها الرجل فسلم واستأذن ، والأولى عندي من اختلاف هذين الوجهين أن يكون محمولا على [ ص: 147 ] اختلاف حالين ، لا يتعارض فيهما كتاب ولا سنة وهو إن وقعت عين القاصد على المقصود قبل دخوله قدم السلام على الاستئذان على ما جاءت به السنة ، وإن لم تقع عينه عليه قدم الاستئذان على السلام على ما جاء به الكتاب ، فعلى هذا إذا أمر أن يبتدئ بالسلام فسلم ، فهل يكون سلامه استئذانا أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يكون استئذانا ، ويكون رده إذنا ، فعلى هذا يكون هذا السلام واجبا وإعادته بعد الوجوب أدبا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يكون استئذانا ، ولا يكون رده إذنا فعلى هذا يكون هذا السلام مسنونا ، قد سقطت به سنة السلام بعد الإذن .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية