الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقررت هذه الجملة لم يخل حال المسلمين عند إرادة الهدنة من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تكون بهم قوة ، وليس لهم في الموادعة منفعة ، فلا يجوز للإمام أن يهادنهم وعليه أن يستديم جهادهم : لقول الله تعالى : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ آل عمران : 139 ] .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يكون بهم قوة لكن لهم في الموادعة منفعة ، وذلك بأن يرجوا بالموادعة إسلامهم ، وإجابتهم إلى بذل الجزية ، أو يكفوا عن معونة عدو ذي شوكة أو يعينوه على قتال غيرهم من المشركين إلى غير ذلك من منافع المسلمين ، فيجوز أن يوادعهم مدة أربعة أشهر ، فما دونها : لقول الله تعالى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ التوبة : 1 ] وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفوان بن أمية أربعة أشهر ، فإن أراد الإمام أن يبلغ بمدة موادعتهم في هذه الحال سنة لم يجز : لأنها مدة الجزية التي لا يجوز أن يقر فيها مشرك إلا بها ، فأما ما دون السنة وفوق أربعة أشهر ، ففي جواز موادعتهم قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : نص عليه هاهنا ، وفي الجزية من كتاب الأم أنه لا يجوز موادعتهم أكثر من أربعة أشهر : لقول الله تعالى : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر فجعلها حدا لغاية الموادعة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : نص عليه في سير الواقدي ، يجوز أن يوادعهم ما دون السنة ، وإن زاد على أربعة أشهر : لأنها دون مدة الجزية كالأربعة مع عموم قول الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ المائدة : 1 ] .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن لا يكون بالمسلمين قوة ، وهم على ضعف يعجزون معه عن قتال المشركين فيجوز أن يهادنهم الإمام إلى مدة تدعوه الحاجة إليها أكثرها عشر سنين : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هادن قريشا عام الحديبية عشر سنين لا أغلال فيها ، ولا أسلال ، ودامت هذه المهادنة سنتين حتى نقضوها فبطلت فإن احتاج الإمام إلى مهادنتهم أكثر منها لم يجز : لأنها مخصوصة عن حظر ، فوجب الاقتصار على مدة الاستئناف والتخصيص ، وقيل للإمام : اعقد الهدنة عشر سنين ، فإذا انقضت والحاجة باقية استأنفتها عشرا ثانية ، فإن عقدها على أكثر من عشر سنين بطلت الهدنة فيما زاد على العشر ، وفي بطلانها في العشر قولان ، من تفريق الصفقة :

                                                                                                                                            [ ص: 352 ] أحدهما : تبطل إذا منع تفريقها .

                                                                                                                                            والثاني : تصح إذا أجيز تفريقها ، وهو المنصوص ، وهكذا إن دعته الحاجة أن يهادنهم خمس سنين لم يجز أن يهادنهم أكثر منها ، فإن فعل كان ما زاد على الخمس باطلا ، وفي بطلان الهدنة في الخمس قولان . ولو هادنهم عشر سنين لحاجة دعت إليها ثم ارتفعت الحاجة كانت الهدنة باقية إلى انقضاء مدتها بعد زوال الحاجة إليها ، وإن لم يجز أن يبتدئ بها في هذه الحال التزاما لما استقر من عقدها بقوله تعالى : أوفوا بالعقود [ المائدة : 1 ] .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية