الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر تفسير ما استدل به الشافعي من الآيات فأول المذكورين من أصحاب الأعذار الأعمى ، وهو الذاهب البصر ، فإن كان ضعيف البصر لعلة فيه ، فإن كان يرى الأشخاص ، وإن لم يعرف صورها ، ويمكنه أن يتقي أخفى السلاح وهو السهام توجه إليه فرض الجهاد ، وإن لم يدرك ذلك : لم يتوجه إليه فرضه . فأما الأعور فيتوجه إليه فرض الجهاد : لأنه يدرك بالعين الباقية ما كان يدركه بهما .

                                                                                                                                            وكذلك الأعشى الذي يبصر نهارا ولا يبصر ليلا ، والأحول ، والأعمش يتوجه فرض الجهاد إلى جميعهم ، وهكذا الأصم : لأن المعتبر النظر دون السمع .

                                                                                                                                            وروى زيد بن ثابت قال : قال لي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : اكتب : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ) الآية . فكتبتها في كتف ، فقال ابن أم مكتوم ، وكان أعمى : فكيف بمن لا يستطيع قال : فأخذت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السكينة ثم سري عنه ، فقال : اقرأ يا زيد ما كتبت فقرأت : لا يستوي القاعدون من المؤمنين [ النساء : 95 ] . فقال : غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله [ النساء : 95 ] . فكتبتها .

                                                                                                                                            والثاني : من أهل الأعذار الأعرج ، وفي المراد به في الآية قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : المقعد .

                                                                                                                                            [ ص: 120 ] والثاني : وهو تأويل الشافعي ، والظاهر من الآية أنه الأعرج من إحدى رجليه لقصورها عن الأخرى ، وهو على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يضعف به عن الركوب ويعجز عن المشي فلا يتوجه فرض الجهاد إليه : لأنه يعجز عن الطلب ، ويضعف عن الهرب .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يقدر على الركوب والمشي ويضعف عن السعي : فيتوجه إليه فرض الجهاد .

                                                                                                                                            وأما الأقطع اليد أو أشلها فلا يتوجه فرض الجهاد إليه : لعجزه عن القتال ، سواء قطعت يمناه أو يسراه لأنه يقاتل باليمنى ويتقي باليسرى .

                                                                                                                                            وإن ذهب شيء من أصابع يده أو رجله بقطع أو شلل نظر .

                                                                                                                                            فإن بقي أكثر بطشه توجه الفرض إليه .

                                                                                                                                            وإن ذهب أكثره سقط الفرض عنه .

                                                                                                                                            والثالث : من أهل الأعذار المريض وهو على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يعجز به عن النهوض فيسقط الفرض عنه .

                                                                                                                                            والثاني : أن يقدر على النهوض فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون مندوبا بالزيادة التي تعجز عن النهوض فيسقط الفرض عنه .

                                                                                                                                            والثاني : أن لا يعذر به فيتوجه الفرض إليه : لأنه قل ما يخلو حي من مرض وإن خفي .

                                                                                                                                            والرابع : من أهل الأعذار ، المعسر الذي لا يجد نفقة جهاده ، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله تعالى : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج [ التوبة : 91 ] .

                                                                                                                                            والذي يعتبر من المال في استطاعته للجهاد يختلف باختلاف المغزى : فإن كان قريب المسافة على أقل من مسيرة يوم وليلة بحيث لا تقصر إليه الصلاة لم يعتبر فيه وجود الراحلة ، كما لا تعتبر في استطاعته الحج ، واعتبر في استطاعته ثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            نفقة سفره ، ونفقة من يخلفه من أهله ، وثمن سلاحه .

                                                                                                                                            وإن بعدت المسافة إلى حيث تقصر بها الصلاة ، اعتبر في استطاعته مع الثلاثة المتقدمة وجود الراحلة سواء قدر على المشي أو ضعف عنه كالحج ، فإن عجز عن أحد هذه الأربعة سقط عنه فرض الجهاد ما كان باقيا على عجزه ، فلو بذل له ما عجز عنه من المال ، نظر في الباذل ، فإن كان الإمام قد بذله من بيت المال لزمه قبوله ، إذا تكاملت [ ص: 121 ] فيه شروط الجهاد ، ولزمه فرضه : لأن له في بيت المال حقا .

                                                                                                                                            وإن بذله غير الإمام من ماله لم يلزمه قبوله : لأنه لا يجب عليه قبول المال لالتزام الفرض ، كما لا يلزمه قبوله في الحج ، فإن قبله لزمه فرض الجهاد بعد القبول ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية