الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ومن سبي منهم من الحرائر فقد رقت وبانت من الزوج كان معها أو لم يكن : سبى النبي - صلى الله عليه وسلم - نساء أوطاس وبني المصطلق ورجالهم جميعا فقسم السبي وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائض حتى تحيض ، ولم يسأل عن ذات زوج ولا غيرها وليس قطع العصمة بينهن وبين أزواجهن بأكثر من استبائهن " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : ومقدمة هذه المسألة أن سبي الذرية موجب لرقهم ، والذرية هم النساء والأطفال ، فإذا أحيزوا بعد تقضي الحرب رقوا ، فأما سبي المقاتلة فلا يرقون بالسبي ، حتى يسترقوا . والفرق بينهما : أن لأمير الجيش خيارا في الرجال بين القتل والفداء والمن [ ص: 241 ] والاسترقاق ، فلم يتعين الاسترقاق إلا بالاختيار ، ولا خيار له في الذراري ، فرقوا بالسبي لاختصاصهم بحكم الرق .

                                                                                                                                            فإذا تقرر هذا لم يخل حدوث السبي في الزوجين من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن تسبى الزوجة دون الزوج ، فقد بطل نكاحها بالسبي بوفاق من الشافعي وأبي حنيفة في الحكم مع اختلافهما في العلة ، فهي عند الشافعي حدوث الرق ، وعند أبي حنيفة اختلاف الدار .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يسبى الزوج دون الزوجة ، فإن لم يسترق ومن عليه أو فودي به لم يبطل نكاح زوجته عند الشافعي ، وأبي حنيفة ، لكن عليه عند الشافعي حدوث الرق ، وعند أبي حنيفة اختلاف الدار .

                                                                                                                                            القسم الثالث : أن يسبى الزوجان معا ، فعند الشافعي يبطل النكاح بينهما بحدوث الرق ، وعند أبي حنيفة لا يبطل النكاح : لأنه لم يختلف الدار بهما ؛ استدلالا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما استرق سبي هوازن بأوطاس جاءته هوازن بعد إسلامهم ليستعطفونه ويستنزلونه من على سبيهم وردهم عليهم ، وأكثرهم ذوات أزواج وأقرهم على مناكحهم ، ولو بطل النكاح بحدوث الرق لأعلمهم ، ولأمرهم باستئناف النكاح بينهم ، وفي ترك ذلك دليل على بقاء النكاح وصحته : ولأن الرق لا يمنع من ابتداء النكاح ، فوجب أن لا يمتنع من استدامته كالصغر : ولأنه قد يطرأ الرق على الحرية ، كما تطرأ الحرية على الرق ، فلما لم يبطل النكاح بحدوث الحرية على الرق ، وجب أن لا يبطل بحدوث الرق على الحرية .

                                                                                                                                            ودليلنا قول الله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ النساء : 22 - 23 ] ، والمراد بالمحصنات هاهنا ذوات الأزواج ، فحرمهن إلا ما ملكت أيماننا بحدوث السبي ، فكان على عمومه في الإباحة فيمن كان معها زوجها ، أو لم يكن .

                                                                                                                                            وروى أبو سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في سبي هوازن ، ولو كان النكاح باقيا لما جازت الإباحة ، ولكان التحريم باقيا .

                                                                                                                                            والقياس : هو أنه رق طرأ على نكاح ، فوجب أن يبطل به ، كما لو استرق أحدهما .

                                                                                                                                            فإن قيل : إنما بطل النكاح باسترقاق أحدهما : لاختلاف الدارين ، فالجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه إذا اتفق موجب العلتين لم يتنافيا ، فلم يصح التعارض .

                                                                                                                                            [ ص: 242 ] والثاني : أن اختلاف الدارين لا يمنع من صحة النكاح ؛ لأن أبا سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام أسلما بمر الظهران ، وزوجاتهما بمكة ، فأقرهما على نكاحهما مع اختلاف الدارين بينهما ، أولا ترى أن المسلم لو دخل دار الحرب فنكح زوجة ، وله في دار الإسلام أخرى لم يبطل نكاح زوجته في دار الإسلام ، ولو عاد إلى دار الإسلام لم يبطل نكاح زوجته في دار الحرب مع اختلاف الدارين ، فبطل أن تكون علة في فسخ النكاح .

                                                                                                                                            وقياس آخر : أن النكاح ملك ، فوجب أن يزول بحدوث الرق ، كالأموال على أن ملك الأموال يشتمل على العين والمنفعة ، والنكاح مختص بالاستمتاع الذي هو منفعة ، ولك في هذا التعليل قياس ثالث : أنه عقد على منفعة ، فوجب أن يبطل بحدوث الرق ، كما لو آجره الحربي نفسه ثم استرق .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بسبي هوازن : هو أنهم كانوا عند ذلك على شركهم ، وإنما ظهر إسلام وافدهم فلم يلزمه بيان مناكحهم قبل إسلامهم .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن تعليلهم بأنه لما لم يمنع الرق من ابتداء النكاح لم يمنع من استدامته ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : انتقاضه بالخلع يمنع من استدامة النكاح ، ولا يمنع من ابتدائه .

                                                                                                                                            والثاني : أن حدوث الرق لا يتصور في ابتداء العقد ، ويتصور في أثنائه فلم يصح الجمع بين ممكن وممتنع .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لما لم يؤثر في النكاح حدوث الحرية على الرق ، كذلك لا يؤثر فيه حدوث الرق على الحرية ، فهو أن حدوث الحرية كمال فلم يؤثر في النكاح ، وحدوث الرق نقص فجاز أن يؤثر في النكاح .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية